صناعة الكراهية وعقدة التوجس من الآخر!
في مقال الأسبوع المنصرم تحدثت عما جرى في فرنسا من أحداث وتوترات منذ عدة أسابيع، وما حصل فيها من أعمال عنف وتدمير وحرق للمركبات، وغيرها من الأحداث، وجاءت هذه الأحداث بسبب قتل أحد المراهقين الفرنسيين، من أصول جزائرية، وهذه الأحداث تكررت في مرات سابقة، كما أشرت إلى ذلك منذ عام 2005، وكانت لها ردود أفعال كبيرة من المفكرين والصحفيين الفرنسيين ومن غيرهم، ممن تابع الأحداث التي جرت، وكانت ناقدة في طريقة تعاطي الشرطة الفرنسية مع هذه المشكلات المرتبطة بالهويات، وغيرها من التوترات، بعضها مرتبط بالحياة الاجتماعية في ضواحي باريس الفقيرة، وهي مناطق في أغلبها من المهاجرين العرب والمسلمين والأفارقة. ويعزو البعض الأمر إلى طريقة التعامل مع المسلمين الفرنسيين ذوي الأصول العربية أو الإفريقية، الذين يلاقون الكثير من الأساليب العنيفة في الضواحي. ولا شك أن هذه التوترات والمشكلات، تحدث في فرنسا بشكل لافت ومستمر بين الفينة والأخرى، بعكس بعض الدول الغربية الأخرى، التي تحصل فيها التوترات بصورة محدودة، والمعالجات تتسم بالرؤى العقلانية في المعالجات التي قد تحدث بصورة إيجابية وهادئة، وهذه الطرق التي تتسم بالشدة تسبب متاعب كبيرة في دولة كفرنسا، باعتبارها من الدول الغربية التي لها علاقات تاريخية مع دول المغرب العربي بسبب القرب الجغرافي بالأخص، لكن الموروثات الثقافية في الغرب للأسف لا تزال تصنع الكراهية، بدلا من الانفتاح والتفاهم والتعايش مع الآخرين الذين يعيشون فيها من أصحاب الثقافات الأخرى، ولذلك من الإيجابية إيجاد وسائل أخرى من التفاهم والقبول بالهويات الأخرى المتعلقة بممارساتها الثقافية والفكرية، لا أن تكون القوة المفرطة دون غيرها وأسلوب الإقصاء والحجب وفرض هوية أحادية هي الطريقة الشائعة في التعامل.
ولا شك أن الصورة النمطية التي يتم استعادتها بين الفينة والأخرى في بعض الدول الغربية، ومنها فرنسا، تُسهم في تقليب المواجع والخلافات التي مضت منذ قرون، ومنها الخوف من الإسلام كعدو أو كخطر على الغرب وفكره وثقافته إلخ..، ولذلك يتم الترويج لما تسميه بعض المؤسسات الإعلامية والفكرية في فرنسا بـ(رهاب الإسلام)، خاصة من الأحزاب اليمينية المتطرفة بصفة خاصة، أو العنف والتطرف منهم، مع أن طريقة التعامل مع المهاجرين أو الفرنسيين من أصول عربية، تدفع إلى العنف وردود الأفعال غير الإيجابية، وهذه من أهم المشكلات التي حصلت، وربما ستحصل، إذا ما بقيت تلك الممارسات والتعاطي العنيف مع هؤلاء الشباب في الضواحي، وإن لم تتغير تلك الأساليب من المعالجات، من خلال أسس جديدة تتسم بروح التسامح والانفتاح على الثقافات الأخرى في فرنسا، بدلا من تكرار تكريس الكراهية، وصناعة الآخر المختلف بصورة العنيف والكاره للحضارة والتقدم الغربي وهي صورة نمطية معروفة وخيالية.
فهذه التصورات النمطية عن الإسلام والمسلمين، تترسخ في الأذهان وكأنها حقائق لا تقبل الجدل أو النقاش، أو الفهم الصحيح الذي يضع الرؤى عن الآخر وكأنها واقعية وليست حقيقية، إن لم تقبل المراجعة عن الآخر المختلف في ثقافته التي يريدونها أن تندمج معهم وهي قضية تطرح من خلال بعض السياسيين، بحيث لا تختلف عن الحياة الغربية كما يعيشونها هم، فهذه النظرة ـ كما يقول المستشرق الروسي «إليكسي جورا فسكي» ـ بقيت «مزيجا متناقضا لمعارف موضوعية مع تشويهات خطيرة ضمت في الوقت ذاته، تصورات في منتهى الخيالية (الفانتازيا)، والتوهم، حيث هيمنت بشكل ثابت، وراسخ لمدة تاريخية طويلة على عقل الإنسان الأوروبي ومنطقه ومداركه تجاه الإسلام وحضارته. ولهذا يمكن القول إن التصورات الغربية المعاصرة حول دين المسلمين، لم تتكون وترتسم في صفحة بيضاء خالية، وإنما انعكست في مرآة قديمة مشوهة». فهذه الأفكار المسبقة والتصورات المشوّهة المتعمّدة، في أحايين كثيرة عن الإسلام والمسلمين، بقيت بصورة مطردة ولافتة في العقدين الأخيرين، وازدادت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، التي أدانها العالم العربي والإسلامي، ولا تمثل الإسلام تجاه الاعتداء على الآخرين المسالمين، وهذه مسألة محسومة في قيم الإسلام.
لكن النظرة الأيديولوجية الضيقة تجاه الآخر، سابقة على هذه الأحداث ومن كتابات بعض المستشرقين تجاه الآخر، ويتجاهل الكثير من الحقائق والوقائع الصحيحة، وقد أسهمت كتابات «صموئيل هنتغنتون»، و«برنارد لويس» في إشاعة الخطر الإسلامي المقبل، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وهذا قبل ما جرى في نيويورك وواشنطن، والإشكال أن الاندفاع إلى التشويه والتحامل والتعصب، سبب الاحتقان والتوتر، كما أن الصورة القاتمة للإسلام: «تطورت أساسا بدافع الكنيسة ـ كما يقول «شانتال دراجون» ـ صبيحة الحروب الصليبية، ولم يعترض أحد فيما بعد أو يناقضها، بل لقد ظلت الإطار المرجعي الوحيد الذي استمرت الفلســفة والآداب تنهل منه حتــى مطلع القرن التاسع عشر». لذلك فإن معالجة الكراهية بين الشعوب والمجتمعات، تتطلب الموضوعية، والعقلانية والنظرة العادلة، واحترام الخصوصيات والهويات والعقائد، فإذا كانت المعالجة سلبية وصادمة للفكر والاعتقاد، فإن مشروعات التفاهم والتقارب والعيش المشترك، إن لم تراجع ستبقى جامدة وحاضرة في العقل الغربي، وهذا ما يجب النظر إليه بعقلانية واعية، لما ستؤول إليه قضايا الخلاف الفكري بين الثقافات والحضارات.
وإذا استقرأنا التاريخ في قديمه وحديثه، ومن منطلقات الحقائق والنظرة الموضوعية، بعيدا عن الانحياز والأحكام المسبقة، نعتقد بل نجزم أن الفرض والقسر أو إلحاق أي ثقافة أو هوية أو قيم وإلصاقها بالفرد، لن يكتب لها النجاح ولو لمئات السنين، وهذه معروفة من تجارب التاريخ ومساراته في الحقب الماضية، بل إن آثاره تأتي معاكسة في غياب الموضوعية والتفاهم الواعي بالواقع، وهذا ما حدث في فرنسا، وقبل ذلك في البوسنة والهرسك وكوسوفو، وغيرهما من الأماكن التي حدث فيها محاولات الإلحاق والقصر والفرض على قيم الآخرين، وحصل فيها دماء وحروب، وقد تحدث عن ذلك المفكر البوسني د/ علي عزت بيجوفيتش في كتابه المعروف (هروبي إلى الحرية)، فحقائق التاريخ ماثلة في مواقف كثيرة حدثت، ويجب ألا تحدث.
ومن هنا من المهم للثقافات أن تقبل بالتعدد والتنوع الثقافي، وليس الاندماج القسري، وهذا التعدد والتنوع بلا شك مصدر إثراء وحيوية في أي مجتمع إنساني، وليس النقاء العرقي هو الذي يجب أن يسود في الثقافة الواحدة، وهذا ما سارت عليه بعض الثقافات الغربية في بعض القرون، وإن كان الغالب الآن هو تجاهل هذه النظرة السلبية، عدا القلة القليلة من الجماعات المتطرفة، لكن تم التجاوز في مسألة النقاء العرقي، وهذا ما كان في مرحلة النازية، وتبنتها بعد ذلك الصهيونية. وبالرغم من أن العنف والإرهاب، قضية عالمية ولا تختص به ثقافة أو ديانة بعينها، وهذا ما يتم للأسف ترديده عند البعض بأن الإسلام دين عنف واستبداد، مع أن الإسلام عندما حكم بلدانًا وشعوبًا بديانات كثيرة، لم يجبر هذه الديانات على الدخول فيه، بعكس محاكم التفتيش في إسبانيا قبل ستة قرون، وبقيت الكنائس المسيحية والمعابد اليهودية منذ القرن الأول الإسلامي إلى يومنا هذا في مصر، والعراق، والشام، وتركيا، وإيران، وبلاد المغرب العربي، وهذا دليل الانفتاح والقبول بالآخر وقيمه وثقافته ودينه، وإذا أحصينا هذه الأعمال العنيفة أو الإرهاب المنظم عند الكثير من الشعوب، نجد أن كل الشعوب في تاريخ الإنسانية وقعت منها أعمال يمكن أن تسمى أعمال عنف وإرهاب بمعايير التقييم الآن للإرهاب، لكن الغريب أنها لا تنسب إلى دين تلك الجماعات، أو المنظمات أو التيارات، إلا في حالة الإسلام فإن الاتهام في الغالب ينسب إلى دين الإسلام وإلى الثقافة الإسلامية! وأحيانا يتم الهجوم على الرموز الدينية في الإسلام بكل وقاحة وبلا أدلة واقعية وصادقة.
إن قضية الجفاء بين الإسلام والغرب، الذي له بعض الحضور في الكثير من الكتابات والدراسات الغربية، تتطلب معايير عادلة، دون استدعاء التاريخ، وأرشيف الذكريات الأليمة، ودون توظيف المقولات المتبادلة في أزمان مختلفة، إذا ما أردنا لصعوبات الحوار والتفاهم أن تتلاشى بالصيغة المقبولة والإيجابية، بين كل الأطراف، شريطة أن يكون الغرب منصفا للعرب والمسلمين، ولا يتهمهم بالإرهاب بصورة تعميمية ومستفزة في الوقت الذي يقولون إن أفعال إسرائيل دفاع عن النفس، وهى مغتصبة لأرض فلسطين وقامعة لأهلها بالقتل والتدمير والهدم، ولذلك فإن التفاهم الإيجابي المطلوب بين الإسلام والغرب، لن يكون ناجحا إلا بالمعايير الصحيحة العادلة، والنظرة الندية المتكافئة بين الأطراف المتحاورة، بعيدًا عن صناعة الكراهية.
