صفقة مهزوزة .. إذا تمت!!

06 مايو 2024
06 مايو 2024

إذا كانت الحروب هي في النهاية ممارسة للسياسة من خلال أدوات القتال التي يمكن حشدها على الجبهات والمناورة بها، وإذا كانت المفاوضات بأساليبها وحساباتها ومناوراتها هي أداة السير نحو تقريب المواقف بين الأطراف وصولا إلى نقاط التقاء مقبولة من الطرفين المتصارعين، فإنه من المعروف أن ما لا يؤخذ بالقتال، أو ما لا يمكن أن يؤخذ بالقتال، لا يمكن أن يؤخذ بالتفاوض، باعتبار أن مائدة المفاوضات تترجم في النهاية ميدان المواجهة على الأرض والعوامل المؤثرة فيها بشكل أو بآخر، فعلى مائدة المفاوضات هناك مبارزات صعبة ومناورات معقدة وحسابات متداخلة تلعب العوامل الموضوعية والطموحات الشخصية فيها دورا مؤثرا في أحيان كثيرة، ومن شأن هذا كله أن يؤثر في سير المفاوضات، أي مفاوضات حسب ظروفها ومعطياتها ومصالح أطرافها وقدرتهم على التلاعب بما هو متاح في أيديهم من أوراق في الوقت المناسب ووفق الحسابات الصحيحة والتقديرات الدقيقة لكل العناصر ولاستجابات الخصم واحتمالاتها أيضا. ومن هنا تطول مفاوضات وتفشل أخرى، ويكون ضروريا أحيانا تغيير بعض المتفاوضين أو حتى إرجاء عملية التفاوض من أجل إنضاج قناعات معينة لدى الطرف الآخر من خلال أدوات الضغط العديدة المباشرة وغير المباشرة وكل هذا يظهر ويعبر عن نفسه بوضوح من خلال الحرب في غزة منذ السابع من أكتوبر الماضي على الأقل، إن لم يكن من خلال مراحل القضية الفلسطينية على مدى العقود الماضية. وهناك العديد من الأمثلة في هذا المجال بما في ذلك مفاوضات صفقة إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين والمعتقلين الفلسطينيين ووقف القتال في غزة والشروط المتبادلة بين حركة حماس وإسرائيل والدور الذي تقوم به الولايات المتحدة والوسطاء لتذليل العقبات على طريق محاولة التوصل إلى صفقة تعددت بشأنها الاجتهادات والتصريحات الموجهة من جانب أطراف مختلفة للتبشير بقرب نجاحها حينا أو للحد من الآمال بشأنها حينا آخر ومحاولة استيعاب قلق أهالي الرهائن الإسرائيليين الذين تحولوا بالفعل إلى إحدى أدوات الضغط على حكومة نتانياهو للدفع نحو إبرام صفقة إطلاق سراحهم والقيام بمظاهرات لم تتوقف خلال الفترة الأخيرة وهو ما يؤثر بشكل أو بآخر على حكومة نتانياهو الذي بات أكثر استعدادا لإبرام اتفاق مع حماس ليس من أجل الحل بالطبع ولكن من أجل محاولة تخفيف الضغوط الداخلية التي يمارسها عليه أهالي الرهائن المحتجزين لدى حماس، والتي تستخدم ورقتهم بنجاح واضح حتى الآن على الأقل. ولعل السؤال الذي يطرح نفسه بشكل أو بآخر هو هل يمكن أن تتوصل حماس وإسرائيل إلى صفقة ناجحة، أو بمعنى آخر إلى صفقة يمكن أن تكون أساسا قويا للسير عليه نحو وقف الحرب في غزة وسحب القوات الإسرائيلية منها وهو ما ترفضه إسرائيل وتتمسك به حماس كشرط؟ على أي حال فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب:

أولا: إن جهود الوساطة التي تقوم بها مصر وقطر والولايات المتحدة هي جهود مضنية وتحتاج إلى كثير من الصبر والرغبة في النجاح والقدرة أيضا على اقتراح الحلول ورؤية نقاط الالتقاء أو حتى احتمال الالتقاء والعمل عليها للتقريب بين حماس وإسرائيل، وذلك من واقع معرفة الوسطاء بجوانب الاختلاف وبمداخل الاقتراب الممكنة لدى كل طرف، ومع الوضع في الاعتبار الضغوط المتزايدة التي تتم ممارستها على قطر بزعم إسرائيلي وأمريكي بأنها تميل إلى التعاطف مع حماس بحكم العلاقة القوية معها وبحكم استضافة الدوحة لقيادات حماس في الخارج وهو ما نفته الدوحة وأبدت استعدادا لإعادة النظر في دورها في الوساطة وهو ما يمكن أن يؤثر بشكل أو بآخر عليها خاصة في ظل الحديث عن إمكانية بحث الدوحة لمغادرة قيادات حماس لها أو إغلاق مكاتب حماس فيها وهو هدف إسرائيلي واستعراضي أيضا لنتانياهو الذي لا يهمه سوى مصالحه الذاتية وأن مغادرة قيادات حماس للدوحة، إذا تحقق عمليا، سيحرم الجهود المبذولة للحل من جهود قطرية ذات صلة قوية مع حماس ويمكن أن تمارس ضغوطا إيجابية عليها، ويلقي في الوقت ذاته عبئا إضافيا على القاهرة وواشنطن، ولكن لحسن الحظ أن الدوحة ستواصل المشاركة في جهود الوساطة حتى تحسم موقفها ومن غير المرجح أنها تستعجل إعادة النظر في دورها ومشاركتها وأنها فقط أرادت توصيل رسالة محددة إلى واشنطن وتل أبيب تدرك كل منهما معناها وسلبيتها على الجهود المبذولة. من جانب آخر فإن الخلافات بين حماس وإسرائيل حول المقترحات المصرية تعد خلافات عميقة، فنتانياهو أكد أكثر من مرة رفضه مطالب حماس وهي وقف إطلاق النار بشكل تام في غزة وسحب القوات الإسرائيلية منها تماما ورفض طلب إسرائيل عدم عودة الفلسطينيين الذين سيطلق سراحهم إلى الضفة الغربية، وكذلك الخلافات حول المواد التي ستدخل غزة بغرض إعادة الإعمار وهو ما يذكرنا بما حدث مع العراق وعدم إدخال أي مواد مزدوجة الاستخدام إليه بعد الغزو الأمريكي له. يضاف إلى ذلك أن نتانياهو عاد مؤخرا إلى التأكيد على اجتياح رفح سواء تم التوصل إلى صفقة أم لا، وذلك في محاولة لتحسين صورته وتخفيف الضغوط الداخلية من جانب اليمين المتشدد عليه، ومن شأن ذلك أن يعقد جهود الوساطة أو على الأقل لا يسهل إمكانية التوصل إلى صفقة.

ثانيا: إنه في ظل ما تشكله مشكلة المحتجزين الإسرائيليين من ضغط على حكومة نتانياهو ورغبته الشديدة في التخلص منها وتقديم ذلك على أنه إنجاز يحسب له إذا تحقق، فإن حماس لا تثق على أي نحو في أي التزامات أو تعهدات لنتانياهو الذي يريد القضاء عليها والتخلص منها وإخراجها من غزة وأعلن ذلك مرارا باعتباره النصر الحاسم من وجهة نظره بغض النظر عن الصعوبة الشديدة في تحقيق ذلك عمليا لأسباب عديدة. وبالنظر إلى أن حماس تتوقع أن يعود نتانياهو إلى القتال في غزة بعد إتمام استعادة الرهائن وذلك في أي فرصة تسنح له، وهو ما يعتقده الكثيرون، فهو لا عهد له في ضوء خبرة السنوات الماضية ونقضه لالتزاماته وتعهداته، فإنها تبحث عن ضمانات، سواء من خلال الطلب بأن تكون دول محددة منها روسيا والصين ومؤخرا تركيا من بين الدول الضامنة لأي اتفاق، أو من خلال طلب أن تكون هناك ضمانات مكتوبة لاستمرار الاتفاق الذي يمكن التوصل إليه، فإن مما له دلالة أن واشنطن أبدت في الأيام الأخيرة استعدادا لتوفير ضمانات مكتوبة لطمأنة حماس أن إسرائيل لن تشن حربا على غزة بعد تحرير الرهائن، وإذا كان من غير الممكن الاعتماد على هذا الأسلوب لضمان النتائج في مثل هذه القضايا مع إسرائيل فإن الاعتماد على اتفاقيات دولية للسلام والاستقرار يضمنها أكبر عدد ممكن من الدول الضامنة للسلام في المنطقة وقبول إسرائيل لحل الدولتين، بل وتعاونها الضروري في تحقيقه وتوفير كل ما يمكن الدولة الفلسطينية المنتظرة من الوقوف على قدميها كدولة مستقلة ذات سيادة هو ضرورة حياتية خاصة في ظل تداعيات عديدة ومشكلات تحول واندماج تصاحب نشوء الدولة الفلسطينية في إطار حل الدولتين الذي تعارضه إسرائيل أو على الأقل لا توافق عليه حتى الآن. هذا فضلا عن مشكلات أخرى عديدة حول الدولة الفلسطينية وكيفية تحقيقها عمليا في ظل اجتهادات ومقترحات عديدة لما بعد وقف الحرب في غزة يمكن أن تطرح مشكلات وتداعيات بالنظر للخلافات بين السلطة الفلسطينية وحماس حول المستقبل وفشل محاولات كثيرة لاستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية آخرها محادثات موسكو ومحادثات بكين بين الفصائل الفلسطينية.

ثالثا: مع الوضع في الاعتبار تاريخ القضية الفلسطينية الطويل ومجلدات المقترحات والمبادرات والقرارات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والإقليمية الأخرى من ناحية، والأوضاع التي تحاول إسرائيل ترسيخها على الأرض عبر انتهاك القوانين والشرعية الدولية وتحدي محكمة العدل الدولية من ناحية ثانية فإن التوصل إلى صفقة يمكن البناء فوقها لحل الصراع يحتاج إلى أسس وعناصر لا تتوفر في الظروف الراهنة، وإذا اقتصرت أهداف التوصل إلى صفقة لتحرير الرهائن الإسرائيليين وعلى الانتقام من حماس ومحاولة القضاء عليها وإخراجها من غزة بالنسبة لنتانياهو وبالنسبة لحماس فإن التمسك بالبقاء بالرغم من كل ما حل بمدن قطاع غزة وبحجم الخسائر البشرية الهائل وما يترتب على ذلك كله من نتائج على المستويين الفلسطيني المؤسسي والشعبي وعلى المستوى الإقليمي قد يفتح في هذه الحالة المجال للتوصل إلى صفقة جزئية خاصة إذا تم تجزئة الخطوات والسير على مراحل لضمان النجاح في البداية، والمؤكد أن الصفقة الجزئية التي قد تضمن إطلاق سراح بعض الرهائن ووقف القتال لمدة ستة أسابيع كمرحلة أولى ستكون صفقة هشة وسيتوقف الأمر على الأوضاع داخل إسرائيل واحتمالات اجتياح رفح من ناحية وعلى الأوضاع في غزة وداخل حماس وكلها تطورات تنسي معها إسرائيل أي تعهدات ومن ثم تتجدد لحرب بعد استراحة قصيرة!!

د. عبدالحميد الموافي كاتب وصحفي مصري