صراع الإرادات بين الغرب وروسيا
هناك صراع إرادات يجري بين الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية من جانب وروسيا الاتحادية حول الأمن الاستراتيجي في منطقة الجمهوريات السوفيتية السابقة وهذه المنطقة الجغرافية سوف تكون مسرح الصراع بين القوتين الغربية والروسية. ولعل النموذج الأوكراني هو الحالة الواقعية التي يمكن الاستشهاد بها في ظل الظروف السياسية والأمنية التي خلفها انهيار الامبراطورية السوفيتية أواخر عقد الثمانينيات من القرن الماضي.
ونموذج أوكرانيا لم يكن الوحيد على صعيد الصراعات المسلحة حيث كانت جمهورية الشيشان مسرحا لحرب امتدت لسنوات بين روسيا الاتحادية وجمهورية الشيشان، كما ان الحرب التي اندلعت بين أرمينيا وأذربيجان في آسيا الوسطى وهما على تماس جغرافي مع موسكو يعطي صورة اكثر شمولية من صراع أكبر في المرحلة القادمة خاصة فيما تسميه روسيا الاتحادية مجال أمنها الحيوي ومسألة نصب الصواريخ لدول حلف الناتو في دول أوروبا الشرقية السابقة والتي كانت جزءا اصيلا من الأمن السوفييتي إبان حلف وارسو الذي انتهى. ومن هنا فإن المشهد السياسي في دول البلطيق والبلقان ودول آسيا الوسطى وأوكرانيا يعد مجالا حيويا للصراع بين الدول الغربية والاتحاد الروسي على الصعيد الأمني والاستراتيجي.
النموذج الأوكراني
التوتر الذي ساد العلاقات الغربية الروسية هو امتداد لصراع استراتيجي أكبر خلال الحرب الباردة وما بعدها فالجغرافيا الروسية على مرمى حجر من الجمهوريات السوفييتية السابقة سواء في وسط آسيا او في دول البلطيق او الجمهوريات القريبة من المحيط الجغرافي الغربي مثل دول أوروبا الشرقية كبولندا والمجر والجانب الشرقي من المانيا. كما ان الامتداد الجغرافي لدول آسيا الوسطى هو مثار قلق روسي حيث وجود أفغانستان والتجربة المريرة للغزو السوفييتي لأفغانستان خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي وهو الغزو الذي خلق حالة من الجهاد الإسلامي وخلق تأثيرات كبيره نتج عنها ظهور القاعدة وما بعدها. كما ان هناك الصراع الأرمني الاذربيجاني والذي نتج عنه مؤخرا حرب بين البلدين انتهى بعودة اقليم كاراباخ المتنازع عليه الى السيادة الاذربيجانية وكان هناك قلق روسي من امتداد الحرب جغرافيا الى أبعد من ذلك.
النموذج الاوكراني الحالي ليس بالمشهد الجديد حيث سبقته حربا مباشرة بين موسكو وكييف انتهى باحتلال شبه جزيرة القرم الاستراتيجية الأوكرانية من قبل روسيا الاتحادية وكان هناك احتجاج غربي وصل الى حد التهديد المباشر. ولكنه اكتفى في نهاية المطاف بعقوبات اقتصادية ودبلوماسية لم تغير من واقع الحال شيئا حيث أصبحت جزيرة القرم تحت السيادة الروسية ويصعب استراتيجيا رجوعها الى اوكرانيا.
المشهد الحالي في أوكرانيا هو تكرار للمشهد السابق حيث الحشود العسكرية الروسية القريبة من بعض البلدات الاوكرانية ومن جانب الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية، هناك تهديد مباشر بالتدخل غير المباشر من خلال الدعم العسكري لأوكرانيا وايضا فرض عقوبات قاسية على روسيا ووقف انبوب الغاز الحيوي الذي يصدر الغاز الروسي الى المانيا. كما أن طلب كييف الانضمام الى حلف الناتو قد جعل الامور أكثر حساسية في منطقة حساسة قد تنفجر في حال تكرر الهجوم الروسي على اوكرانيا.
الامن الاستراتيجي
بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار حلف وارسو انكشف الامن الاستراتيجي الروسي من مناطق جغرافية متعددة خاصة تجاه المنطقة الحيوية الأكثر حساسية بالنسبة لموسكو وهي المنطقة القريبة من جوار دول حلف الناتو الذي يعد المنطقة الاكثر تهديدا للأمن الاستراتيجي الروسي خاصة فيما يتعلق بنصب الصواريخ الاستراتيجية القريبة من الحيز الجغرافي الحيوي الروسي. وهنا تكمن المشكلة في وجود جمهوريات سوفييتية سابقة أصبحت أكثر ولاء للغرب خاصة دول البلطيق ودول أوروبا الشرقية، والتي كانت حليفة لموسكو، كما أن دخول تلك الدول خاصة بولندا والمجر الى حلف الناتو يشكل معضلة أمنية للاتحاد الروسي كما أن طلب كييف المتكرر للانضمام الى حلف الناتو يشكل هاجسا أمنيا لموسكو، وهو الامر الذي جعلها تحتل شبه جزيرة القرم الاستراتيجيه والتي كانت جزءا من الأراضي الاوكرانية.
اذن الصراع المتجدد حول اوكرانيا بين الدول الغربية وروسيا الاتحادية هو صراع استراتيجي أشمل وأكبر ربما يتعدى الصراع الاستراتيجي مع الصين لأسباب تاريخية وجغرافية وعرقية وهناك إحساس من تلك الجمهوريات السوفييتية السابقة القريبة من أوروبا بأنها أكثر ميلا للاندماج في المشروع الغربي الاقتصادي والاجتماعي، وفي مجال التطور التقني وهو الأمر الذي سوف يشكل كتلة سياسية وامنية مهمة لاوروبا بشكل خاص، وحتى للولايات المتحدة الأمريكية والتي تعهدت بحماية أوروبا من أي خطر روسي محتمل من خلال الخطط العسكرية والاستراتيجية لحلف الناتو كما هو الحال في الموضوع الأوكراني والذي لايزال قابلا للانفجار رغم الجهود الدبلوماسية خاصة بين واشنطن وموسكو.
إذن الباعث على القلق الروسي من التطورات حول موضوع أوكرانيا يعود لأسباب الأمن القومي الروسي ويمكن تخيل عندما تصبح كييف عضوا في حلف الناتو حيث ستكون هناك تداعيات كبيرة على الأمن والاستقرار في تلك المنطقة الملتهبة. ومن هنا فإن روسيا الاتحادية تواجه تداعيات أمنية إستراتيجية من جانب الفضاء الجغرافي على حدودها من وسط اسيا وان كان بدرجة أقل وإن كان الوضع في أفغانستان يشكل الهم الامني الاكبر، وهناك الدول السوفييتية السابقة في دول البلطيق ودول أوروبا الشرقية حيث الامتداد الجغرافي القريب من روسيا الاتحادية علاوة على أوكرانيا ذات الامتداد الاوروبي. ومن هنا فإن الصراع حول الأمن والاستقرار في تلك المنطقة يشكل الهاجس الاكبر للأمن الروسي على صعيد القارة الأوروبية في جانبها الشرقي وايضا في وسط القارة الآسيوية.
هل تندلع الحرب؟
التقارير الغربية في مجال الاستخبارات تحذر من حرب محتملة بين الجيشين الروسي والاوكراني وقد تكون حربا محدودة لا تتعدى بعض البلدات الاوكرانية لتوجيه رسالة مباشرة لواشنطن والدول الغربية، ومع ذلك فان احتمال نشوب تلك الحرب لاتزال موجودة رغم الحديث بين الرئيس الامريكي جو بايدن والرئيس الروسي فلاديمير بوتين بهدف السيطرة على التوتر وإجراء حوار شامل حول قضايا الأمن الاستراتيجي بين اوروبا وروسيا الاتحادية خاصة على صعيد الترسانة الصاروخية في أوروبا، حيث تعتبر موسكو ذلك تهديدا مباشرا لأمنها القومي، وعلى ضوء ذلك فإن مسار الازمة بين روسيا الاتحادية واوكرانيا سوف يتحدد على ضوء الحوار الامريكي الروسي تحديدا. كما ان الموقف الأوكراني من الأزمة مع موسكو سوف يشكل مسار الازمة في المرحلة القادمة. وهنا لابد أن تكون العيون مفتوحة على الوضع في اوكرانيا كما يقال، فمشهد سيطرة موسكو على شبه جزيرة القرم لايزال حاضرا وتم بسرعة كبيرة جعلت واشنطن والدول الغربية غير قادرة على فعل ردة فعل تتساوى مع ذلك الحدث العسكري، وهو الامر الذي شكل خيبة أمل كبيرة للقيادة الاوكرانية واصبحت تلك القيادة تلح على مسألة الانضمام إلى حلف الناتو بهدف حماية أمنها الوطني.
ان التوتر بين الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وبين روسيا الاتحادية على عدد من القضايا الاستراتيجية يحتاج الى حوار متعمق حتى لا تنزلق الامور الى حرب غير متوقعة في أوكرانيا ولابد من إيجاد علاقة طبيعية بين موسكو وكييف لمناقشة كل قضايا الخلاف وعلى رأسها موضوع استيلاء موسكو على شبه جزيرة القرم، وإن كانت موسكو ترفض الحوار حول هذا الموضوع.
الحوار بين واشنطن وموسكو هو المخرج الوحيد لعودة الهدوء الى تلك الساحة السياسية الملتهبة بين روسيا وأوكرانيا وايضا حول قضايا الامن الاستراتيجي في أوروبا وعلاقة ذلك بقضية نصب الصواريخ الاستراتيجية مما يشكل ذلك قلقا روسيا على الأمن والاستقرار.
عوض بن سعيد باقوير صحفي ومحلل سياسي
