صدام الحضارات الغربي .. وحوار الحضارات الإسلامي
تاريخ البشرية الطويل، مليء بالصراعات التي لم تقتصر على المكاسب والخسائر العسكرية والسياسية.. بل طالت البُنى العميقة للإنسانية؛ وهي الحضارات بأبعادها الدينية والجمالية والثقافية والمادية. في مسير هذا الصراع.. وتطويرًا لوجهة نظر الأمريكي برنارد لويس (ت:2018م) حول «صدام الحضارات» الذي استعمل هذا المصطلح أول مرة عام 1957م؛ نشر الأمريكي صمويل هنتجتون (ت:2008م) أطروحته «صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي» في تسعينات القرن العشرين الميلادي، وكان دافعه:
- سقوط الشيوعية؛ المنازِع الثوري للرأسمالية الغربية. وبنظر هنتجتون أنَّ العالم لا يمكن أنْ يخلو من الصراع، وصراع الحضارة الغربية الآتي هو مع الحضارة الإسلامية، ثم الحضارة الصينية، وهو لا يقوم على أسباب سياسية واقتصادية بقدر ما يقف على أساس ثقافي بقاعدته الدينية.
- إصدار الأمريكي فرانسيس فوكوياما كتابه «نهاية التاريخ والإنسان الأخير»؛ حيث ذهب فيه بأنَّ انتصار العالم الرأسمالي الغربي على الشيوعية، التي نشأت خصمًا له؛ قد أصبح حقيقة واقعة، مقررًا بذلك الحتمية الرأسمالية والليبرالية الغربية لمصير التاريخ، فكل الثقافات في النهاية ستخضع للثقافة الغربية. مما حدا بهنتجتون بعد خمس سنوات من إصدار فوكوياما كتابه أنْ يطيح بأطروحته، ويقرر أنَّ الصراع لابد منه، والمعركة لم تحسم.
ردةَ فعلٍ على الرؤية الغربية.. طرح المسلمون «حوار الحضارات»، فالعالم المترامي الأطراف والمتسارع في النمو لا يمكن أنْ يرضخ لثقافة واحدة، فضلًا أنْ تكون الرأسمالية الغربية، ولكي يعيش في سلام؛ عليه التفاهم بين حضاراته بالحوار. فإنَّ إيران عام 1998م ممثلةً برئيسها خاتمي -مطورًا أطروحة الفرنسي المسلم روجيه جارودي (ت:2012م) الذي أصدر عام 1977م كتابًا بعنوان «حوار الحضارات»- قدمت إلى الأمم المتحدة مقترحًا ببرنامج عالمي للحوار بين الحضارات، ورغم الموقف الغربي والعربي من السياسة الإيرانية؛ بيد أنَّ البرنامج أسس قاعدة لحوار عالمي، فخصصت الأمم المتحدة عام 2001م للحوار بين الحضارات، وتبنت منظمة المؤتمر الإسلامي خطة له نفذت عام 2005م .
شكّلت أطروحة «صدام الحضارات» التي تنذر بموجة من الصراع العالمي؛ لاسيما بين المسلمين والغرب، صدمة للفلاسفة والمفكرين، فانبرى العديد منهم للرد عليها، وكان التخوّف أنْ تصبح مبرراً للمزيد من الصراع. لذلك؛ فإنَّ محمد خاتمي؛ بكونه مفكرًا ورئيسًا لإيران؛ التي من المتوقع حينها أنْ تصبح رأس حربة للمواجهة المفترضة -وهذا ما أثبتته أحداث طوفان الأقصى- سارع إلى تقديم أطروحته للحوار بين الحضارات والثقافات؛ لتكون بديلًا عن أطروحة الصدام، فأخذ خاتمي يبشر بالحوار في المحافل الدولية، وعبر منصات الأمم المتحدة، وقد كثّف محاضراته فبلغت حوالي 15 محاضرة ما بين عامي 1998-2000م، قدّم فيها تنظيرًا ومحاور للحوار الحضاري، صدرت في كتاب بعنوان «حوار الحضارات».
ركزّت أطروحة خاتمي على (أنَّ الحواجز التي تحول دون الفهم؛ شرقًا وغربًا تأخذ في الاضمحلال، في ظل المساعي العالمية المشتركة، التي تستهدف تحقيق الازدهار الروحي والتنمية المادية للإنسان، ولا يعني ذلك دمج الثقافات وذوبانها في تركيب واحد، أو زوال التنوع والتعددية والتمايز الثقافي. في وسع الغربي والشرقي معًا حتى على تقدير أنْ تصبح الثقافات من طراز واحد؛ أنْ يكونا كيانين مستقلين يتباينان ويتكاملان، ويكون كل منهما في أعماقه مشدوداً نحو مأواه المألوف. ليس الغرب والشرق مجرد أقاليم جغرافية.. بل هما نمطان من الرؤية حيال الكون، ولونان من الوجود، وحين يتوافر الاعتراف بما يمتلكه الشرق والغرب من هذه الأبعاد والمعايير الأصيلة والتوجهات؛ فإنَّه يمكن في الحوار الحقيقي أنْ نتقبل الحصة التي يستحقها كل طرف، ونتولى تجلية الحقائق الأفضل لدى الأطراف المختلفة، من أجل عالم يطاله التحول، والبحث عن جوهر إنساني مشترك بين المادة والروح) -خاتمي، حوار الحضارات، ص63-.
وبينما نَظَر الإيراني عبدالكريم سروش إلى أطروحة هنتجتون بأنَّها توصيف غير فلسفي للحالة التي يمر بها العالم في وقته بسبب سقوط الشيوعية؛ فقد نَظَر كذلك إلى رد خاتمي بأنَّه غير فلسفي، وإنَّما هو رد أخلاقي: (ما يقوله هنتنغتون وصف، وما يقوله خاتمي توصية، تحدث هنتنجتون «عمّا يمكن أنْ يكون»، وتحدث خاتمي «عمّا يجب أنْ يكون»، فحديث خاتمي ليس فلسفيًا.. بل هو حديث أخلاقي في المرحلة الراهنة). ولأنَّ هنتجتون الذي ركّز على التباينات الحضارية، ولخّص رؤيته بقوله: (إنَّني أيضًا لا أريد النزاع، غير أنَّه لم يبقَ أي مجال للكلمة؛ لأنَّ منطق هاتين الحضارتين -الغربية والإسلامية- لابد أنْ يقود إلى الحرب، فليس هناك مجال للكلام)؛ فالرد عليه بما يسميه سروش بـ(حوار الأصل الإنساني) وقبول التعددية ونبذ الأنانية، وهذا هو (صلب الحياة الدينية والتفهم العلماني للدين)، حيث يقول:
(مواجهة هنتنجتون لا تتم بالتوصية الأخلاقية، إنَّما ينبغي أنْ يقال له: إنَّ المنطق ترك مجالاً للحوار، فالشيء الذي لم يتناوله هنتنجتون في نظريته هو الاقتباسات والمشتركات البشرية، ذلك أنَّ جذور الحضارات قد نمت من الماء على السواء، فكلنا بشر قبل أنْ نكون شرقيين أو غربيين. كما أنَّ العديد من الفلاسفة الغربيين يرون أنَّ للبشر من الحاجات ما يشترك الكثير في أساسها، فلا فرق في الأصل بين الأسس والمبادئ، إنَّما الفارق يكمن في الاحتكار والأنانية. فإذا كانت هناك تعددية دينية لاجتثت جذور النزاع، وإذا ما وجد للفكر التعددي -الذي أصبح يسود الغرب كله- مفهوم صحيح في العالم الإسلامي، لاجتث أحد جذور الصراع بين الحضارات. نحن كنا دومًا تعدديين في عالم التفسير وعملنا بالتعددية، أي أنَّنا كنا نقبل التعددية، ولم نقبل أحدًا في صفة ومقام خاتم المفسرين والشارحين، وهذا ما كان يشكّل صلب الحياة الدينية والفهم العلماني للدين أيضاً) -خدابخش، أفكار سروش عن الإسلام والغرب، موقع الحياة الإلكتروني-.
لقد عمد المسلمون إلى تأصيل فكرة الحوار بالرجوع إلى «صحيفة المدينة» التي أبرمها النبي الأكرم بين سكان المدينة، ومما تطرقت إليه بالإضافة إلى الدفاع العسكري عن المدينة:
- تنظيم مجتمع المدينة على أطر اجتماعية، كالمهاجرين والأنصار وبني الحارث وبني عوف وبني النجار وبني ساعدة والأوس واليهود، وهي جميعها متساوية في الحقوق والواجبات.
- اعتبار الاختلاف العقدي، وأنَّ ساكني المدينة يشكلون أمة واحدة: (وإنَّ يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم)، وهكذا سائر اليهود من القبائل الأخرى التي ذكرتهم الصحيفة بالاسم.
- رفع الظلم والعدوان والفساد والانتصار للمظلوم: (وإنَّ على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإنَّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأنَّ بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وأنَّه لا يأثم امرؤ بحليفه، وأنَّ النصر للمظلوم).
لقد غدت «صحيفة المدينة» لدى المسلمين مرجعًا للتنظير فيما يتعلق بالحقوق؛ لاسيما المدنية، ومما بُني عليها «إعلان مراكش»؛ الذي اهتم بحقوق الأقليات الدينية في العالم الإسلامي؛ حيث اعتبر («صحيفة المدينة».. الأساس المرجعي المبدئي لضمان حقوق الأقليات الدينية في العالم الإسلامي)، و(دعا المؤسسات العلمية والمرجعيات الدينية للقيام بمراجعات شجاعة ومسؤولة للمناهج الدراسية للتصدي لأخلاق الثقافة المأزومة، التي تولد التطرف والعدوانية، وتغذي الحروب والفتن). ومما جاء فيه: (إنَّ تكريم الإنسان اقتضى منحه حرية الاختيار)، و(إنَّ البشر -بغض النظر عن كل الفوارق الطبيعية والاجتماعية والفكرية بينهم- إخوة في الإنسانية)، و(إنَّ الله عزَّ وجلَّ أقام السموات والأرض على العدل، وجعله معيار التعامل بين البشر جميعًا منعًا للكراهية والحقد) -بن بَيْه، الموقع الإلكتروني الرسمي-.
ختامًا.. على عكس تنظير سروش؛ بأنَّ الغربي يتمتع بالتعددية الثقافية، التي يفتقد إليها الشرقي؛ فإنَّنا اليوم نرى الغرب ماضيًا في صدامه الحضاري باستعماله القوة، وأنَّ حوار الحضارات قد تقهقر بفعل تشرذم المسلمين.
خميس العدوي كاتب عُماني مهتم بقضايا الفكر والتاريخ ومؤلف كتاب «السياسة بالدين».
