صاحب المعطف الأنيق

13 فبراير 2024
13 فبراير 2024

ماذا بعد؟ صاحت فجأة جندية:

هو أنت ثانية؟ ألم أقتلك؟

قلت: قتلتني... ونسيتُ، مثلك، أن أموت.

محمود درويش

ينسى الفلسطينيون أنهم ماتوا ويعودون، وينسى الصهاينة ولا يتذكرون، يصرخون بأعلى أصواتهم وتبح حناجرهم العفنة وتعلو أصواتهم، لكن قتلهم لا يتوقف، خالجهم الوهم عندما يفرغوا من جرائمهم، لكن الفلسطينيين يخرجون من كل مكان أكثر قوة وعنفوانا. كلما أمعن المجرمون في القتل تتجلى مقاومة الفلسطينيين، هكذا لن يضعوا سلاحهم ولن يركعوا أو يركنوا لتلك الرياح العاتية. أجسادهم تحترق لكنهم ينهضون من الرماد وينهضون كطائر الفينيق.

شعب الجبارين، كما وصفهم ياسر عرفات، وصفٌ يليق بأولئك الرجال والنساء والأطفال الذين أبهروا العالم بقوة صلابتهم ورباطة جأشهم وتحمّلهم وعزيمتهم التي لا تهزها الجبال. «يا جبل ما يهزك ريح» كما قال ياسر عرفات أيضا. فجبال المقاومة عالية راسخة في الوجدان الفلسطيني لا يهزها شيء، هم وحدهم من يشعلون الأعاصير.

للمقاومة أبطالها ورموزها، هكذا يخبرنا الفلسطينيون بأن مقاومتهم للاحتلال الصهيوني الغاشم ليس بالسلاح وحده، إذ تمثل ثقافة الرموز وأيقونات المقاومة الفلسطينية مقاومة من نوع آخر ومختلف. فظهرت الكوفية الفلسطينية بلونيها الأبيض والأسود التي تعد رمزا وطنيا فلسطينيا ورمزا للتحرر والمقاومة وأشهر من ارتداها الزعيم الفلسطيني أمين الحسيني والزعيم ياسر عرفات، وأصبحت رمز النشطاء حول العالم إذ غالبا ما نشاهد المقاومين والمتظاهرين يلفونها حول رقابهم ويتخذونها رمزا لمقاومة الظلم والطغيان وضد الإمبريالية الدولية. كذلك استخدمت إشارة النصر التي يرفعها الفلسطيني بسبابته وإصبعه الوسطى للدلالة على النصر أو السلام. وفي رمزية أخرى أكثر دلالة يستخدم الفلسطينيون المفتاح، إذ ترفع المفاتيح عاليا وتعلق في جدران البيوت كرمز لحق العودة للمهجّرين. وفي منتصف السبعينيات ظهرت شخصية حنظلة كأيقونة فلسطينية كاريكاتورية ابتكرها ورسمها الفنان ناجي العلي وتمثل طفلا فلسطينيا في العاشرة من عمره يعقد يديه خلف ظهره ويدير ظهره للعالم.

غزة التي أبهرت العالم بصمود أبطالها ومقاوميها ضد العدوان الهمجي والإبادة الجماعية، تخلق رموزها وأيقوناتها الخاصة، إذ لا يتوقف إبداع مقاوميها ورغم كل المآسي والكوارث، تختلف تلك الأيقونات فتظهر مرة على شكل حركة لا شعورية أو قول عفوي عابر أو فعل يؤرخ لحادثة أو رسمة تخفي معاني متعددة، تكسب تلك الأيقونات رمزيات ذات دلالات وأبعاد متعددة.

وائل الدحدوح ذلك المناضل الصلب الذي وقف كالجبل على جثامين عائلته وهو يودّعهم إلى مثواهم الأخير وأطلق كلمة (معليش) وكأنه يواسي عائلته وكأنهم حاضرون معه ويسمعونه، (معليش) صارت أنشودة يتغنّى بها الكثير. وذلك الفيديو الذي انتشر بسرعة وجاب العالم للجد خالد نبهان الذي يحتضن حفيدته (ريم روح الروح) التي استشهدت في القصف الصهيوني، وكذلك المرأة العجوز أم العبد حليمة الكسواني التي أنشدت (شدوا بعضكم يا أهل فلسطين ما ودعتنا)، وصورة ذلك المقاتل الذي ينتعل بنعل خفيفة وقميص قصير الأكمام وابتكر طريقته الخاصة بالاحتفالية العفوية وهو يفرغ من تدمير آلية عسكرية صهيونية وهو يقفز مبتهجا ويردد كلمة (ولّعت)، والمقاتل الذي صاح بفخر عقب إصابته للمدرعة الصهيونية (حلّل يا دويري)، و(الشهيد الساجد) الذي ظهر في مقطع فيديو أثناء تنفيذه لعملية ضد القوات الإسرائيلية وعندما رصدته طائرة تابعة لقوات الاحتلال لينتهي مستشهدا وهو ساجد، إنه الشهيد البطل تيسير أبو طعيمة. وغيرها الكثير من الأيقونات التي تتحول إلى رموز والتي ستظل حاضرة كلما ذكرت غزة، وكلما ذُكر طوفان الأقصى.

رمز آخر تقذف به غزة في وجه العالم المتخاذل، المقاتل صاحب المعطف الطويل، إنه أيقونة أخرى ورمزية أخرى تضاف إلى تلك الأيقونات، كل ما يُعرف عنه أنه مقاتل خرج في خان يونس بكامل أناقته وأبهته متلحفا بمعطفه (بالطو) ذي اللون الأسود، ينتعل حذاء رياضيا أبيض أنيقا، كان الرجل يمشي بثقة متناهية العزة والكرامة لا يهاب ولا يخشى أزيز الرصاص الكثيف الذي يتساقط من حوله، ولا يلتفت لضجيج الطائرات التي تحوم فوقه، مقبلًا غير مدبر متأبطًا قذيفة «آر بي جي» يضع عليها قذيفة (الياسين 105) وقف ثابتا بطوله الفارع قبالة دبابة إسرائيلية (الميركافا) الواقفة عند ناصية الشارع، وبكل ثقة وتركيز أطلق القذيفة، فاشتعلت الدبابة، فكانت تلك الطلقة كفيلة بإشعال جبهة أخرى.

وكما هي طلة المتحدث باسم كتائب القسام الملثم أبو عبيدة أو أبو حمزة اللذين لا تُعرف هويتهما، جاءت طلة الرجل الأنيق أو المقاتل الأنيق كما سُمّي فأشعلت وسائل التواصل الاجتماعي وحظيت بتفاعل كبير ممتدحين شجاعته التي أبداها وتلك الطلة البهية، فتنوعت التعليقات والألقاب التي أطلقت عليه، منها من نعته بالمقاتل الأنيق، أو غزة مان، أو روبن هود غزة، أو زورو فلسطين، أو الفارس، فيما وصفه متابع آخر بأنه المقاتل الأكثر أناقة في تاريخ حركات التحرر الوطني، ومتابع آخر يطالب بجعله رمزا للأطفال وأيقونة بطولية بدلا من (سبايدر مان وبات مان وكابتن أمريكا) وبعضهم من طلب أن تُطبع صورته وتوضع في القلوب وفي كل مكان.

شخص مجهول لا أحد يعرف من أين أتى ذلك الرجل المقاتل، أجاء من مكمن فوق الأرض أم انبثق كالشعاع من نفق تحت الأرض؟ يسأل البعض أكان الرجل ذاهبا لمناسبة عيد أو ما شابه ذلك؟ أكأنه أراد أن يلقى ربه بأبهى الملابس وأرقاها؟ أو ربما أراد من ذلك أن يبعث بعدة رسائل لجهات كثيرة عن حال المقاومة. هل أراد أن يقول إن كل فئات الشعب تقاوم وتلتحم في المعركة لا يقتصر ذلك على الفقراء وحدهم، الشجاعة قد لا تحتاج إلى ضجيج أو صراخ، ولا جيوش المدججة بالسلاح أو قادة موشحة صدورهم بالنياشين والأوسمة، وليس بالضرورة أن يكون لمن يدافع عن وطنه وعرضه أن يزهو بملابس عسكرية وأحذية لماعة.

تتجلى رمزية ذلك المقاتل الأنيق وتذكرني بأولئك الأشخاص الذين كانوا سببا في إشعال جذوة الثورات ورفعوا مظلومية شعوبهم وسطروا انتصارات كتبت بدمائهم، أشخاص بقت شخصيتهم مجهولة، هم أبناء النضال الحقيقيين، أولئك الذين أكلتهم الثورات، هم المجهولون في الأرض المعروفون في السماء.

الشيء اللافت في قصص المجهولين صانعي الرموز في غزة هو ما إن تقترب ساعة إماطة اللثام عن هويتهم إلا وتتلاشى أجسادهم ويستشهدون تباعًا لتبقى أرواحهم هائمة وتزداد رمزية وخلودًا، هكذا بمجرد ما استشهد صاحب عبارة (ولّعت) عُرف، واسمه، عاهد عدنان أبو ستة. واستشهد المقاتل مهند رزق محمد جبريل صاحب عبارة (حلّل يا دويري).

تذكرني حكاية هذا المقاتل الأنيق المجهول بالعديد من الأبطال المجهولين في التاريخ العربي، ومنها قصة الصحابي الجليل أويس القرني الذي فضّل أن يعيش مع غبراء الناس عندما لقيه عمر بن الخطاب تنفيذا لوصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم بأن يطلب منه أن يستغفر له أو يدعو له إن لقيه، رغم أنه لم يرَ النبي. وقصة (صاحب النقب) مع مسلمة بن عبدالملك بن مروان عندما استعصى عليه أن يفتح حصنا من الحصون في إحدى المعارك وإذا بشخص يفتح نقبا أو نفقا ودخل وفتح الحصن من الداخل ودخل المسلمون النقب، فأراد مسلمة أن يعرفه لكن جاءه رجل ملثم فاشترط عليه شروطا ثلاثة إن أرد أن يعرفه، وهي ألا يأمر له بعطاء وألا يكتب اسمه في رسالة للخليفة وأن يعده ألا يخبر به أحدا فقال مسلمة له لك ذلك فأشاح له عن لثامه وقال له أنا صاحب النقب.

أسال الله أن يطيل في عمر المقاتل الأنيق وكل المناضلين الأبطال وأن يرحم شهداء غزة، والنصر والعزة لكل الأحرار.