شركات التكنولوجيا العملاقة تنحرف عن المسار

28 نوفمبر 2022
28 نوفمبر 2022

كان إفلاس بورصة العملات الرقمية المشفرة FTX، الواقعة الأحدث في تاريخ طويل من الخداع المالي الأمريكي، حدثا غير عادي، قال خبير إعادة هيكلة الشركات جون راي الثالث، الذي يشرف الآن على إفلاس FTX: «لم أر طوال حياتي المهنية مثل هذا الفشل التام لضوابط الشركات والغياب الكامل للمعلومات المالية الجديرة بالثقة كما حدث هنا».

كان انهيار بورصة FTX هو الواقعة الأحدث في قطاع انهالت عليه الضربات منذ أبريل2021، عندما انخفضت قيمة العملات الرقمية لأول مرة بعد أن اقتطعت الأسواق 89 مليار دولار من القيمة السوقية لأسهم شركة ميتا (Meta)، أعلن رئيسها التنفيذي مارك زوكربيرج أنه يعتزم التخلص من 13% من قوة العمل في الشركة (11 ألف شخص). ثم في غضون أيام من استيلاء إيلون ماسك على شركة تويتر، التي اشتراها -على سبيل التسلية كما يبدو- مقابل 44 مليار دولار، بدأ كثيرون يشعرون بالخوف على مستقبل المنصة.

الواقع أن الأفراد من غريبي الأطوار الذين يمتلكون مليارات الدولارات، ويرغبون في بناء إمبراطوريات من الشركات (بما في ذلك المؤسسات الخيرية)، ليسوا غريبين على الولايات المتحدة، عندما كنت أقرأ عن سام بانكمان فرايد، مؤسس بورصة FTX المكلل بالعار ورئيسها التنفيذي السابق، تذكرت «حروب إيري» (صراع من القرن التاسع عشر بين الممولين الأمريكيين للسيطرة على شركة إيري للسكك الحديدية) في أواخر ستينيات القرن التاسع عشر، عندما سعى ممولون من أصحاب الكاريزما، ويتمتعون بالقدرة على الوصول بسهولة إلى مبالغ هائلة من رأس المال والائتمان، إلى بناء أولى شركات الأعمال الكبرى في الولايات المتحدة السكك الحديدية العابرة للقارات. وقد بنيت السكك الحديدية، ولكن ليس بدون إهدار مالي كبير ومكائد بين الشركات.

جولد المتألق

في قلب الأمر برمته كان جاي جولد، أعظم مشغل مالي في تاريخ الولايات المتحدة، وفي عام 1868، عمل جولد الشاب الذي وصل حديثا إلى وال ستريت على استغلال العميد البحري الـمُـسِـن كورنيليوس فاندربيلت، الذي جنى ثروته من صناعة السفن البخارية. بعد الحرب الأهلية، بدأ فاندربيلت يشتري أسهم سكك نيويورك سنترال الحديدية على أمل السيطرة عليها؛ لإخفاء نواياه، واشترى فاندربيلت الأسهم بالوكالة، لكن دانييل درو، أحد المضاربين في وال ستريت، بلغه الخبر، وقام درو مدير شركة إيري للسكك الحديدية المنافسة بإقراض نفسه أسهم إيري التي استخدمها كضمان لشراء أسهم نيويورك سنترال. وقرر فاندربيلت الذي استشاط غضبا لأنه اضطر إلى دفع المزيد لشراء نيويورك سنترال، وعقد صفقة مع درو وعمل على المزايدة على أسهم شركتي السكك الحديدية في ذات الوقت.

سرعان ما عـمد درو، سائق الماشية السابق الذي كان يطعم قطعانه الملح حتى تشرب المزيد من الماء وتكتسب وزنا أكبر إلى خيانة فاندربيلت، فانضم إلى جولد وشريكه جيمس فيسك جونيور.

أثناء حروب إيري، لجأ درو وجولد وفيسك إلى إضعاف قيمة أسهم إيري بإصدار شهادات أسهم تتجاوز القيمة المعقولة لأصول السكك الحديدية القائمة، وأصدر قاض من نيويورك خاضع لسيطرة فاندربيلت حكما ضدهم.

فَــرّ درو وجولد وفيسك من نيويورك حاملين حقائب مليئة بالنقود وأسهم وسندات إيري، وأستطيع أن أتخيل الثلاثة وهم يضحكون ويلوحون وداعا لمانهاتن أثناء انتقالهم إلى جيرسي سيتي في نيوجيرسي تماما كما فعل بانكمان فرايد وزمرة رفاقه، الذين أصبحوا أصحاب ملايين ومليارات أثناء عملهم بعيدا عن متناول الهيئات التنظيمية من أحد منتجعات جزر الباهاما. بدا النظام النقدي والمالي مختلفا تمام الاختلاف أثناء حروب إيري عما هو عليه اليوم، وكانت الولايات المتحدة تناضل من أجل العودة إلى معيار الذهب، ولم يكن لبنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وجود في ذلك الوقت، ومع ذلك خلال هذه السنوات، ونظرا لمركزية أسواق رأس المال الأمريكية مؤخرا في مدينة نيويورك أثناء الحرب الأهلية، كانت مؤسسات وال ستريت تفيض بالائتمان الذي جعل التلاعب والمخططات الفاضحة من جانب جولد ودرو وأمثالهما في حكم الممكن، بالإضافة إلى التلاعب المالي. وأفضت قدرة الشركات على الوصول إلى الائتمان السهل إلى تغذية الاستثمار المزدهر في صناعة السكك الحديدية الوليدة في الولايات المتحدة، لكن أغلب هذا الاستثمار كان هَـدّاما.

استحوذ القائمون على الشركات من أمثال جولد على الأموال، واشتروا الأراضي، وبنوا خطوط السكك الحديدية عبر المناطق السيادية التي كانت ملكا للأمريكيين الأصليين قبل أن يتمكن المنافسون من الوصول، وعندما أضرب العمال مطالبين بأجور أعلى والعمل لثماني ساعات في اليوم، لم يتورعوا عن سحقهم. كان شبح احتكار الشركات يلوح في الأفق، ولكن لاح في الأفق أيضا خطر إفلاس الشركات إذا استُـنـزِفَـت الثقة -وبالتالي المال- من النظام المالي.

شهد عصر السكك الحديدية حالتين من الذعر المالي الحاد بشكل خاص، في عام 1873 ثم في عام 1893، وأعقبهما كساد اقتصادي طاحن.

الاستيلاء على الأرض رقميا

تبدو أوجه الشبه مع الحال اليوم واضحة، فبانتهاز فرصة أسعار الفائدة المنخفضة في تسعينيات القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحالي، ثم أسعار الفائدة الشديدة الانخفاض التي سادت لأكثر من عقد من الزمن بعد الأزمة المالية العالمية التي اندلعت عام 2008، واستحوذت شركات التكنولوجيا العملاقة على الأموال الرخيصة لاستخدامها في التهام الشركات المنافسة، والمواهب الهندسية، والبيانات الشخصية، وخنق المنافسة كلما أمكن ذلك. والآن، مع ارتفاع أسعار الفائدة بسرعة، أصبح الائتمان المتاح للمزايدة على الأسهم والعملات الرقمية المشفرة أقل، وتبين أن تقديم الخدمة للمستهلكين بأسعار أقل من التكلفة، من جانب العديد من الشركات التي كانت تلتهم الديون التهاما، قد لا يكون استراتيجية عمل طويلة الأمد قابلة للتطبيق. يبدو أن الائتمان الوفير يلوث حتما الغرائز الحيوانية بالجشع، مما يؤدي إلى الإفراط في التجاوزات وأعمال الشركات المنافية للقانون. كان من الأفضل كثيرا تشديد الأوضاع المالية، كما تفعل البنوك المركزي الآن أخيرا، وإخضاع الشركات لسوط رأس المال الشحيح والمنافسة في السوق، أليس كذلك؟ ليس بالضرورة، ما يهم حقا ليس حجم الائتمان الهائل بقدر المكان الذي يذهب إليه وماذا يمول نسبة إلى تفضيلات المجتمع واحتياجاته. طالما وُجِدت التفضيلات والاحتياجات المشروعة، فلن يوجد ما يسمى الاستثمار المفرط، بل سيكون لدينا فقط استثمارات رديئة.

على الجانب الأخلاقي، تتلخص الاستجابة الصحيحة في التراجع عن التقارير التي تناولت خدع بانكمان فرايد، المالية وغير ذلك، لكن الأخلاق ـ التخلص من «حبات التفاح الفاسدة» قبل أن تفسد برميل التفاح بأكمله ـ ليست القضية المركزية. فالمشكلة ليست في الإفراط والجشع، أو حتى مزايا «الإيثار الفَـعّـال»، بل تكمن المشكلة في أن شيئا ما انحرف بشدة في العلاقة بين القوة السياسية والقوة الاقتصادية. اشتهرت حروب إيري جزئيا؛ لأنها كانت موضوع كتاب «فصول من حروب إيري» (1871)، الذي اشترك في تأليفه هنري آدامز وتشارلز فرانسيس آدامز جونيور، حفيدا الرئيس الأمريكي جون كوينسي آدامز. وحَـذَّرَ الأخوان آدامز أيضا قراءهما من التركيز على الجشع الخاص، واستحثاهما على التركيز على السياسة. عندما أقرأ وصفهما لفاندربيلت، لا يسعني سوى التفكير في إيلون ماسك وهو يصرح في استرخاء على تويتر: «لقد جمع بين القوة الطبيعية الفردية والقوة المصطنعة التي تتمتع بها الشركات، تمثل عبارة «الدولة أنا، وأنا الدولة» الشهيرة، التي جاءت على لسان لويس الرابع عشر، موقف فاندربيلت في ما يتعلق بسككه الحديدية.

لقد أدخل على نحو غير واع القيصرية إلى حياة الشركات.. فاندربيلت ليس سوى بشير بقدوم طبقة من الرجال الذين سيمارسون داخل الدولة سلطة أوجدتها الدولة، لكنها أعظم من أن تتمكن من السيطرة عليها» تمثل الشركات -سكك إيري الحديدية وتويتر، وسكك نيويورك سنترال الحديدية وميتا- للوهلة الأولى مخلوقات قانونية من صنع الدولة، وكان فاندربيلت بالفعل نذيرا بقدوم تلك «الطبقة من الرجال» الذين يتمتعون بقدر كبير من السلطة اليوم.

عودة المقهورين

إلى حد ما، لم يخل انهيار FTX من الداخل من مفارقة ساخرة؛ لأن والدة بانكمان فرايد، أستاذة القانون في جامعة ستانفورد والفيلسوفة باربرا هـ. فرايد، كتبت واحدة من أرقى الدراسات البحثية حول مفهوم مختلف تماما لقوة الشركات: مثال المنفعة العامة، ركزت تقارير إخبارية على ما يفترض أنه مقال كاشف بقلم باربرا فرايد، حيث كتبت أن الرغبة في تحديد وجهة «اللوم الشخصي» تسببت في «تدمير العدالة الجنائية والسياسة الاقتصادية»، لكنها كانت محقة، وكان من الأفضل لو لجأ متابعو ملحمة FTX إلى كتابها الذي لا غنى عنه بعنوان «الهجوم المتصاعد على مبدأ عدم التدخل في الاقتصاد: روبرت هيل وأول قانون وحركة اقتصادية»، الذي نُـشِـر عام 1998، عندما كان ابنها في السادسة من عمره. زعم هيل، أستاذ القانون والاقتصاد في جامعة كولومبيا، بلا كلل أن السكك الحديدية والشركات مثل المرافق الكهربائية التي توفر خدمات عامة أساسية يجب أن تكتسب معدل عائد «عادل» على استثماراتها؛ نظرا لتكاليف الإنتاج التي تتحملها، ولكن ليس أكثر من ذلك وبالتأكيد ليس التقييمات المالية السخيفة في أسواق رأس المال المتضخمة بالائتمان. ليس من الواضح ما إذا كانت العملات الرقمية المشفرة تقدم أي خدمة عامة أساسية، وإن كنت أتفق مع حكم ماسيمو أماتو ولوكا فانتشي من جامعة بوكوني أن العملات الرقمية المشفرة في تحدي النظام النقدي العالمي الحالي، «تطرح السؤال الصحيح، لكنها تعطي الإجابة الخاطئة». من الأسهل أن نسوق حجة المرافق العامة لصالح شركات وسائط التواصل الاجتماعي، الواقع أن المبادئ التنظيمية مثل «المرافق العامة» تستحق إعادة الاكتشاف وغيرها لا يستحق، وإليها، أود أن أضم التقدير المفرط للبيروقراطية الخانقة أثناء قسم كبير من القرن العشرين التي استنزفت دينامية روح المغامرة.

المشكلة هي أن الدينامية عندما عادت إلى الظهور بقوة في تسعينيات القرن العشرين النيوليبرالية، عادت معها فجوات التفاوت الأوسع وسط ثروات التكنولوجيا المكتشفة حديثا، فضلا عن قدر كبير من الاحتيال والأفعال المنافية للقانون من جانب الشركات. الحق أن كثيرا مما تقدمه شركات التكنولوجيا الكبرى جدير بالثناء، من المرح (وهو أمر طيب) إلى الإبداع المذهل، لكن انهيار FTX، والاضطرابات التي اجتاحت تويتر وميتا، كشفت مرة أخرى عن التكاليف المترتبة على الإيمان الأعمى بروح المغامرة والثروة. إن الدولة لا تملك تَـرَف ترك الأمور ذات الأهمية العامة الحيوية، بما في ذلك مدخرات المواطنين، ووسائل الاتصال العامة الرئيسية، لنزوات وأهواء أصحاب مليارات من ورق تحركهم أوهام صبيانية.

جوناثان ليفي الأستاذ في قسم التاريخ ولجنة الفكر الاجتماعي بجامعة شيكاغو.

خدمة بروجيكت سنديكيت