شرطيُّ العالم ودماءُ غزة

19 نوفمبر 2023
19 نوفمبر 2023

يعيش العالم اليوم مشاهدات يومية لكسر وخرق كل مواثيق ومعاهدات حقوق الإنسان لدرجة أننا لم نعد بحاجة إلى تذكر تلك المخالفات، ولا تأكيد حدوثها أو استمراريتها تحت مظلة من الدعم المستمر لإسرائيل من القوى العظمى، لكننا يقينا بحاجة إلى ذاكرة لا تنسى وتوثيق لا يضيع ليوميات هذا الدعم، بل والمشاركة الفعلية على أرض الواقع تسليحا وتوجيها وتشجيعا وليس مجرد الصمت عنها وتجاهلها من قبل دول صمّت آذان العالم بادعاء تمثلها إنسانية عالية ومدنية عظيمة مع تحضر لا يبارى.

وبعد التأكيد على مبدأ لا يقبل الشك في أن الإنسانية وحدة لا تقبل التجزئة ولا ترضى التمييز ولا تقوم على المصالح، فإننا نستذكر بعض بطولات الدول المشاركة لعدوان إسرائيل على شعب غزة الأعزل ولن نقول حربا، إذ سياق الحرب مختلف تماما في افتراض خصمين متكافئين أو حتى غير متكافئين في ظروف عسكرية تجعل منهما أعداء، أما الواقع في غزة حاليا فلا توصيف له إلا عدوان دولي على بلدة محاصرة لم تكن آمنة، وما عادت آمنة إذ تعيش حصارا خانقا لسنوات قبل أن تبدأ خطة العدوان في تنفيذ التهجير القسري وفق أقسى الظروف، باستخدام أشد الأسلحة فتكا وإبادة وصولا لمصالح لا يمكن أن تخفى سواء كانت مصالح عسكرية أو اقتصادية لأطراف معلنة وأخرى غير معلنة.

نتذاكر بطولة كندا ورئيسها شخصيا حينما انتفض تلبية لنداء مراهقة خليجية هاربة من أهلها مسخرا كل طاقة كندا لاستقبالها وتهيئة الظروف الملائمة لتوفير اللجوء الإنساني لها، واستنطاقها للتعبير حقيقة ودون مواربة عن رأيها في أهلها الأشرار وبلدتها القاسية التي لم تتح لها ما تبحث عنه من حرية سلوك وحرية تعبير، الرئيس الذي سعى لاحتضان هذه الفتاة اللاجئة هو نفسه الذي لم يجد أي بأس أو ضيق في المشاركة، وبكل صراحة وبتعبير مباشر عن دعمه الكامل لإسرائيل في حملتها لإبادة سكان غزة بأكملهم، وهم المدنيون العزّل، وبينهم أطفال قضوا نحبهم ممزقين إربا تحت قصف آلة الحرب التي قادها مع شركائه ضدهم.

نتذكر فرنسا لا في عهد حملاتها الوحشية في الماضي غير البعيد على مستعمراتها في الشرق الإفريقي، بل في حاضرها الذي تدعيه وتدعي فيه وضع القوانين الدولية لحماية حقوق الإنسان، ورعاية حقوق الطفل ومحاربة الإرهاب، وهي ذاتها التي لم يجد رئيسها أي ضير في أن يقف داعما ومشاركا في عدوان إسرائيل على غزة، واستهداف حملتهم معا لمواقع مدنية (مدارس ومستشفيات ومساجد وكنائس) يتحصن بها الأبرياء بعد قصفهم في المخيمات والدور، ولم يجد غضاضة في الجهر بحملتهم الوحشية ضد مجاميع من البشر الذين لا سلاح لهم ولا حيلة بعد تجريدهم من الغذاء والدواء والطاقة وحتى الصوت والرأي حين قطعوا عنهم كل ذلك رغبة في تسريع حركة التصفية العاجلة المخطط لها، والتي أرادوا تبريرها بهجوم حركة حماس في السابع من أكتوبر، وفي ذلك يكفي من تضليل، فكأننا نراهم يقصفون باريس بأكملها بحثا عن مجرم هارب من السجن، ولا قياس بينهما إذ ارتكب المجرم فعل الاعتداء، وقامت حماس بفعل المقاومة أيا كان شكلها، ولكن حتى مع افتراض الجرم فالنتيجة لا تبرره، ولا يمكن جعله ممكنا بكل مقاييس المنطق والتحليل.

نستذكر أوكرانيا التي دافعنا والعالم عنها وعن تعرض أهلها لاحتمالية حرب روسية قادمة رغم أنها حليف لكل من أوروبا وأمريكا وبريطانيا، فما كان منها إلا أن كانت أول الداعمين للعدوان الإسرائيلي، وهو مبرر مع منطق المنافع المشتركة إذ (أدعم قتلكم للآخرين لتمنعوا عني القتل)!

نستذكر بريطانيا التي أقسمت قبل أمد قصير أنها ندمت على دعمها السابق للحرب في العراق بعد أن أثبتت تحقيقات المحكمة الجنائية وملفات الأمن الأمريكي والبريطاني معا أنها بنيت على فرضية كاذبة مفادها وجود أسلحة دمار شامل في العراق، لكنها حنثت بقسمها مجددا لتثبت للعالم أن أسلحة الدمار الشامل ميزة غربية لا ينبغي امتلاكها من قبل أي دولة في الشرق الأوسط، ولا بأس من امتلاكها واستخدامها إن كانت لأهداف تخدم المصلحتين الأمريكية والبريطانية معا كأعتى المستعمرين القدامى إذا ما وضعنا معهم فرنسا في مثلث الاستعمار الرافض عجلة الزمن، أو محاولة القوانين الدولية تهذيب وترويض وحوش الأمس، ثقة منهم في أنهم يملكون عصا الطاعة لمخالفيهم ولا قوة تملك أي عصا لترويض آلتهم العسكرية ولعبتهم الإعلامية.

نستذكر ألمانيا دولة عظمى تحاول حماية مصالحها المشتركة أولا مع إسرائيل وحلفائها، ثم تحاول الهروب من المأزق التاريخي بعد الحرب العالمية في سمعتها باضطهاد وتعذيب اليهود إلى مندوحة من تعذيب الفلسطينيين وتهجيرهم وتصفيتهم قربانا لتبييض صفحتها الوحشية بوحشية مضاعفة!

نستذكر أمريكا وتقارير سفاراتها السنوية في دول الشرق الأوسط وهي تلعب دور حامي الحمى، وحارس حقوق الإنسان وهي التي لم تصادق على كثير من القوانين التي تحاول أن تلزم بها كثيرا من الدول، حتى اتفاقية حقوق الطفل، كما أنها سحبت مصادقتها من المعاهدة المؤسسة للمحكمة الجنائية الدولية، ليصير لها الحق في تقديم من شاءت كمجرم حرب في هذه المحكمة دون أن يكون للآخرين الحق في تقديمها، ومن الطريف هنا من باب التذكر أن الصين كانت تعمل على كتابة تقرير سنوي يتضمن سردا تفصيليا لكل ما قد يرد إليها من مخالفات أمريكا لحقوق الإنسان بكل المجالات، وتجعله جاهزا للرد على أي تقرير تحاول أمريكا تمريره للصين متضمنا دورها كشرطي على دول العالم، وكأنها تقول لها: امسحي الدماء عن يديك قبل ادعاء الدفاع عن دماء القتلى.

نُقلِّب كل تلك المشاهد في ذاكرة نتمنى ألا تموت، ولا تغفو لاستذكار كل ذلك مستقبلا، كما تستذكر ذاكرة شعوب العالم كل مشاهد القتل المجاني والإبادة الجماعية، وسقوط المثل العليا، وانهيار التنظير والتسويق لحماية الدول الكبرى لحقوق الإنسان لتصير «غزة» هي كلمة السر التي تخرس كل هؤلاء مستقبلا، كما نأمل أن كل صمت الدول العربية عن رد الفعل اليوم غير متضمن للمشاركة في الفعل الأفظع عبر هذه المرحلة، كي لا نبوء معهم بإثم كل تلك الوحشية، ولنكن ممن سعوا لتأييد الحق على الأقل، إن لم نكن مع من فاز بانتزاعه.

لو أننا نحسن التذكر وتفعيل الذاكرة عبر التاريخ، لسعينا إلى اتحاد عربي إسلامي مشرقي كبير يشمل تركيا وإيران، متخذين دروس التاريخ مرتكزات لتكامل عسكري اقتصادي اجتماعي، ولسعينا لتحالفات مختلفة عن تحالفات الماضي البائسة والتي عكست هشاشتها هذه المرحلة من كل النواحي، ولأفلتنا بمصائرنا من عقدتي الذنب والخوف، ولصنعنا غدا أقوى باتحاد لا تصل إليه فُرْقةٌ ولا يُربكه شتات، ولكن لو حرف امتناع لامتناع لن يبلغ آخره حتى إدراك وتمثل أوله.