شخصية المرء يُمكن أن تتغير من ساعة إلى أخرى «2»
ترجمة: نوف السعيدي -
بينما يقيس الباحثون عادة التقلبات الداخلية للفرد من خلال تقييم الشخص نفسه على فترات قصيرة -على سبيل المثال، كل 24 ساعة لمدة أسبوع أو خمس مرات في يوم- اعتمدت عالمة النفس نادين بيكمان (Nadin Beckmann) وزملاؤها من جامعة دورهام في إنجلترا نهجا مختلفا. سأل الباحثون كل من الـ 288 متخصصًا -الذين مثلوا عينة الدراسة- سلسلة من الأسئلة حول شخصيتهم، سواء كانوا مثابرين، متأملين، هشين، مزاجيين، وما إلى ذلك. طُرحت الأسئلة عليهم في لحظة محددة، بعدها طرحوا الأسئلة ذاتها على ما يصل إلى خمسة من أفراد الأسرة أو الأصدقاء المقربين منهم أو الزملاء.
تشرح بيكمان كيف تكشف الحالات اللحظية عن سمات شخصية معينة كنوع من الاستجابة للمواقف المختلفة. نحن نعلم على نحو حدسي أننا لا نفكر ونشعر ونتصرف في المنزل بالطريقة نفسها التي نفعلها في العمل أو أثناء اللقاءات الاجتماعية مع الأصدقاء. تُظهر نتائج بيكمان أن التباين في الشخصية يتقلب بشكل منهجي حسب السياق بغض النظر عن الشخص الذي يقيمه. قد يُنظر إلى الشخص على أنه أكثر تيقظا في العمل منه في المنزل وأكثر انفتاحا مع الأصدقاء منه مع زملاء العمل.
مع تعلم الباحثين تحديد التباينات من لحظة لأخرى، بدؤوا في تقييم ما تعنيه التقلبات في ابتكار صورة أشمل للشخصية. يقول رام: في حين تُقاس التقلبات في المزاج من ساعة لأخرى، فإن التباينات في تقدير الذات تُقاس على نحو شهري. إذا ما كان مزاج الشخص يتغير كثيرًا، بينما يظل تقديره لذاته ثابتًا نسبيًا، فيُمكن أن يُفسر هذا على أن تقدير هذا الشخص لذاته لا يتأثر كثيرًا بالارتفاع أو الهبوط المؤقت الذي يُمكن أن تتسبب به المجاملات أو الإهانات.
في السنوات الأخيرة، وجدت أخصائية علم النفس والمعالجة السلوكية المعرفية في ولاية بنسلفانيا ميشيل نيومان (Michelle Newman) أن التذبذبات في الشخصية في غاية الأهمية، سواء لإجراء البحوث أو لابتكار طرق جديدة لعلاج المرضى. وتقول إنه في الأيام التي سبقت الهواتف الذكية، كان المرضى الخاضعون للعلاج النفسي أو المشاركون في الأبحاث يملؤون استبيانا يُلخص ما يعتقدوه حول أنفسهم. يُطلب منهم تسجيل التقلبات في مشاعرهم من ساعة لأخرى على الورق أو على جهاز إلكتروني لتدوين الملاحظات مثل PalmPilot. ولأنهم يجدون هذه مهمة مرهقة، فإنهم ينتظرون حتى نهاية اليوم لتسجيل أفكارهم ومشاعرهم. ماذا يُنتج لنا هذا؟ بيانات «عديمة القيمة» تقول نيومان.
مع ظهور تطبيقات متخصصة للهواتف الذكية، تمكن علماء النفس من مراقبة مشاعر الناس وتجاربهم عدة مرات في اليوم وحصد ملاحظات أكثر دقة لحالاتهم النفسية. في بحثها عن التقلبات المزاجية للأشخاص الذين يعانون من اضطراب القلق العام (GAD)، استخدمت نيومان هذا النوع من التوثيق الدقيق للأفكار والمشاعر؛ من أجل تحدي معتقدات بعض علماء النفس السابقة حول سبب القلق المستمر الذي هو العرض الأساسي لاضطراب القلق العام. افترضت النظريات السالفة -التي استندت إلى ملخصات الناس لمشاعرهم- أن قلق الأفراد ناجم عن كتمهم لمشاعرهم السلبية.
تشير نتائج نيومان إلى العكس: يعمل القلق المستمر على استدامة المشاعر السلبية. في إحدى الدراسات، قامت هي وزملاؤها بمراقبة 83 شخصا يعانون من اضطراب القلق العام على مدى ثمانية أيام مباشرة قبل أو بعد ضرب من التفاعل الاجتماعي الذي يستمر لدقيقة أو أكثر. في المتوسط، وجد العلماء أن الأشخاص الذين يعانون من اضطراب القلق العام (GAD) شعروا بشكل عام بتحسن بعد هذه التفاعلات الاجتماعية، مما يشير إلى أن تلك التفاعلات كانت على الأرجح ممتعة أو على الأقل غير ضارة. على نحو غير متوقع، وجدت الباحثة أن أولئك الذين قلقوا على نحو أقل قبل المواجهة الاجتماعية، كوّنوا مشاعر أكثر مثل القلق والحزن بعد ذلك، بينما أولئك الذين كانوا أكثر قلقا قبل اللقاء شعروا بالسعادة أو الرضا بعدها.
أكدت هذه الدراسة نظرية نيومان التي مفادها أن الأشخاص القلقين يعتقدون أنهم إذا ما قلقوا بشأن نتيجة سيئة (بغض النظر عن مدى احتمالية حدوثها)، فإنهم لن يفاجؤوا بشيء فظيع يحدث لهم بعد أن سلموا أنفسهم للسعادة والتفاؤل. وتقول إنه عندما لا يترتب عن الحدث شيء سيئ، فإنهم يشعرون بالراحة، مما يعزز اعتقادهم بأن القلق يحميهم. لولا هذه السجلات التفصيلية للتقلبات في الأفكار والمشاعر على مدار اليوم، لفات الدراسة هذه الأفكار التنويرية.
تساعد البيانات التي يتم جمعها على فترات متكررة كذلك المعالجين في تشكيل علاجات تتكيف مع الاختلافات الفردية للمرضى. كثير من الناس لا يعرفون أو قد لا يتذكرون ما الذي يثير قلقهم، ولكن يمكن للمعالجين اكتشاف ذلك من خلال ربط مستويات القلق المرتفعة بالأحداث اللحظية. يمكنهم حث المريض على استخدام استراتيجيات محددة تعلموها سابقًا في العلاج لمواجهة قلقهم. على سبيل المثال، باستخدام تقنية تسمى إعادة الهيكلة المعرفية، إذ يُقارن المرضى ما يقلقون بشأن حدوثه بما حدث فعلا لمساعدتهم على إدراك أن مخاوفهم لا أساس لها من الصحة.
ليست مشكلة القلقين أنهم يمتلكون مشاعر سلبية فقط، لكنهم يميلون أيضا إلى تخفيف مشاعرهم الإيجابية. تقول نيومان: «ليس علينا أن نسعى فقط لتقليل المشاعر السلبية، نحتاج أيضًا إلى تعزيز المشاعر الإيجابية».
لتعزيز هذه المشاعر الحميدة، طور زميل نيومان -عالم النفس لوكاس لافرينير (Lucas LaFreniere) من كلية سكيدمور- تطبيقا يُدعى SkillJoy. على فترات عشوائية خلال اليوم، يدعو التطبيق الأشخاص القلقين للتركيز على شيء ممتع في اللحظة الحاضرة -مثل لقاء صديق، أو جعل شخص ما يضحك، أو الاستماع لأغنية حلوة- و«تذوق» ما يؤججه ذلك لدقيقة أو دقيقتين. وجدت دراسة حديثة أنه بعد سبعة أيام، شعر مستخدمو SkillJoy بالقلق على نحو أقل مما كانوا عليه قبل استخدام التطبيق.
هذا الفهم للتقلب العاطفي على مدار اليوم دفع الباحثين إلى التساؤل عما إذا كان مستوى التذبذب العالي في الشخصية يعمل لصالح أو ضد الأشخاص. رأي نيومان في هذا النقاش واضح. تقول: «التباين أمر جيد، ولا توجد إجابة واضحة حول متى تشي بشيء مرضي». الآخرون في هذا المجال أقل يقينا. في حين ربطت بعض الدراسات التباين العالي بالعصابية، إلا أن بعضنا الآخر فشل في القيام بذلك. فالكثير منها يعتمد على السياق. يقول رام: إن الشخص الذي يعاني من تذبذب عالٍ في الشخصية قد يتكيف بنجاح مع الحياة المضطربة، في حين أن الشخص الذي يعاني من انخفاضها قد يكون لديه حياة روتينية يمكن التنبؤ بها وقد يكون في الواقع أكثر صلابة.
وفقا للدراسات الحديثة التي أجراها باحثون مثل ليزبيث بنسون (Lizbeth Benson) -الباحثة في مركز العلوم الصحية بجامعة أوكلاهوما- فإن وجود مجموعة متنوعة من المشاعر تتراوح من الحماس والتصميم إلى الحزن والخوف -والتي أطلق عليها جوردي كويدباخ (Jordi Quoidbach) «التنوع الشعوري (emodiversity)»، وهو الآن أستاذ مشارك في كلية الحقوق إيسيد في برشلونة- يُعتقد أنه يساعد الناس على التكيف بشكل أفضل مع المواقف المختلفة على مدار اليوم. تقول بنسون: «أروع شيء أظهرناه هو أنه بالنسبة لأولئك الذين عانوا من مستويات عالية من المشاعر السلبية»، أي أولئك الذين لديهم أنواع أكثر من المشاعر السلبية يميلون إلى تحقيق نتائج صحية أفضل.
بالنسبة للمعالجين والمرضى، فإن الاعتراف بالتذبذب في المشاعر اليومية -السيئ منها، والجيد بشكل واضح، تلك الحالات المزاجية العالية، والأخرى الغاية في الدنو- قدم رؤى جديدة للهدف الدائم لعلم النفس، أي المساعدة في تحديد من نحن حتى نتمكن من تعلم كيفية العيش مع تلك المعرفة، وإيجاد طرق لنصبح النسخة الأفضل من أنفسنا.
