شـجـون

17 أبريل 2023
17 أبريل 2023

الكتابة عن مستوى الخدمات المحلية وسهولة تقديمها لها بعض المحاذير، منها أن البعض قد يحملها على غير ما تحتمل، كما أنها قد تثير ردود أفعال متشنجة وغير منطقية. ولكن الأمانة تقتضي إبداء الرأي بغرض التنبيه إلى بعض السياسات والإجراءات التي تبدو غريبة ومعرقلة وتسبب اليأس والإحباط، سواء للبسطاء من عامة الناس أو لأولئك الذين لديهم خبرات واسعة ومصالح كبيرة يسعون لتحقيقها، وأقصد تحقيقها بطريقة سليمة.

لذلك فإنه لا بد للمجتمع من وجود رأي «ناقد» وقول بليغ. والنقد بمعناه العلمي لا يعني التبرم ولا الإرجاف ولا التحريض، كما لا يعني الهتاف أو التصفيق لكل سياسة أو قول، وإنما يعني الموضوعية وطرح البديل الذي يجب أن يكون هدفه تحقيق الصالح العام. ومما يزيد من وجوب عدم الصمت على خطأ أو ضيم، ما نسمعه من بعض كبار المسؤولين في الحكومة عن أهمية الرأي، وحثهم الكتاب على التعبير عن آرائهم «بمسؤولية»، سواء بالكتابة في الصحف أو بالحديث في القنوات الإذاعية الرسمية.

وبناء على تلك المقدمة، فإنني أطرح في هذا المقال رأيا حول بعض الإجراءات التي تطبقها وزارات أو مؤسسات حكومية، وهي ليست حالات حصرية، وإنما هي أمثلة قد يكون لها شبيه في مؤسسات أخرى. وربما يرى المعنيون أنهم إنما يطبقون تلك الإجراءات بقصد الضبط والتنظيم، لكنها للأسف تؤثر سلبا على طيف واسع من المواطنين. وبسبب طول مدة تلك الإجراءات وتزايد تعقيداتها تعطلت مصالح كثيرين وتكاد أن تضيع بسببها حقوق آخرين، مما أدى إلى يأس لدى البعض من الناس فانكفؤوا على أنفسهم تاركين حل مشاكلهم للقدر أو للزمن. ومع أنه توجد نماذج مضيئة من حسن التنظيم والتسهيل في بعض الجهات، إلا أن تعقد بعض الأنظمة وطول الإجراءات في جهات أخرى أصبح أمرا لا يطاق. ولكثرة ما أسمعه من معاناة، رأيت أن يكون عنوان هذا المقال «شجون»، وهي كلمة تناسب المقام؛ لأن شجون جمع «شجن» والشجن هو الهم والغم.

نبدأ بالمثال الأول وهو يتعلق بوزارة الإسكان والتخطيط العمراني. ولن أتطرق هنا إلى ما يسمونه «تمليك» الأرض أو العقار، فهذا موضوع بذاته ذو شجون عظيمة، وإنما أتكلم عن المتطلبات التي يجب تقديمها في المرحلة النهائية من إجراءات معقدة للوصول إلى ما يسمونه «التمليك»، وهو في الحقيقة ليس «تمليكا» وإنما هو مجرد إصدار سند ملكية لحق ثابت. والأدهى من ذلك أن بعض المعنيين لا يبنون ما يتخذونه من قرارات لإصدار سند الملكية من عدمه على أساس التحقق من الأدلة والشواهد وإنما على الشك والظن «وإن الظن لا يغني من الحق شيئا». لذلك يصدر سند ملكية لهذا من الناس ولا يصدر لذاك مع أن كلا الملكين في نفس المحيط والمكان. وإذا كان الملك لورثة فإن الأمر يصبح أكثر تعقيدا واستحكاما؛ لأن الوزارة تطلب شهادة حصر ورثة، وتطلب صورا من البطاقات المدنية لجميعهم، وذلك حتى يصدر السند بأسمائهم جميعا، حتى إن كان من بينهم ورثة ورثة للورثة الأصليين، أي جيل ثالث أو رابع من الورثة، وقد يصل العدد إلى عشرات أو مئات الأشخاص! الغريب في الأمر أنه إذا كان أحد الورثة الأصليين قد توفي فلا يظهر اسمه في السند! وهذا يعني من الناحية القانونية أن أحد الورثة الأصليين لا حق له ولا لورثته في الملك، أو بعبارة أخرى إمكانية ضياع حق الوريث المتوفى! والسؤال هو ما الذي يضير أن يصدر سند الملكية باسم «ورثة فلان بن فلان أو فلانة بنت فلان، أي باسم ورثة المالك الأصلي للأرض أو العقار، ويترك أمر قسمته للورثة، يتفاهمون بشأنها بينهم أو يلجؤون للقضاء في حالة الخلاف.

المثال الثاني شبيه بالأول وعلى علاقة به، وهو تسجيل عقود الإيجارات لدى البلدية، وذلك للعقارات التي تخص أيضا ورثة. فعند طلب تسجيل عقد الإيجار، تطلب البلدية شهادة حصر ورثة، وقد يكون أحد الورثة قد توفي وترك ورثة. وتطلب كذلك صورا من بطاقاتهم المدنية، وقد يكون من بينهم أطفال ما زالوا لا يحملون بطاقات. كذلك تطلب البلدية توكيلا من جميع الورثة ومن ورثة الورثة، بمن فيهم القصر. كل هذا يعني صعوبة تسجيل عقود الإيجار، الأمر الذي قد يؤدي إلى ضياع حقوق الملاك وعدم استفادتهم من العقار المراد تأجيره، بمن فيهم الأطفال والقصر، وذلك بسبب التأخر في تسجيل العقود أو لعدم إمكانية تسجيلها بتاتا. وهناك إشكال آخر يتصل بتسجيل عقود الإيجار بصفة عامة، وهو أنه إذا انتهى عقد الإيجار، وأراد صاحب العقار تأجيره لشخص آخر، فإن عليه أن يحصل على موافقة المستأجر السابق من خلال تعبئة استمارة يوقع عليها، وهو ما قد لا يكون متاحا في كل الظروف لأسباب كثيرة. وهناك موضوع آخر يتعلق بالبلديات، وهو عن إصدار تراخيص البناء. المتبع لدى البلديات حاليا أنه إذا تعاقد شخص مع مقاول لبناء عقار، ووقع خلاف بين صاحب العقار والمقاول، فإن على صاحب العقار أن يأتي بما يفيد أنه تمت تسوية الخلاف مع المقاول، وأن المقاول ليس لديه مطالبات على صاحب المشروع، وإلا فإنه لن يتمكن من استئناف العمل في المشروع مع مقاول جديد! وهناك أترك التعليق لذوي الألباب لعلهم يتفكرون. لكن من الواضح في الحالات الثلاث المذكورة أعلاه أن الجهتين المعنيتين قد تعدتا دورهما كمنظم، وأصبحتا تمارسان دور المحكمة أو القاضي، وهذا لا يستقيم لا مع مصلحة أصحاب الحقوق، ولا مع نظم تحديد الاختصاصات وعدم تعارض المسؤوليات، كما لا تتفق مع هدف تسهيل الإجراءات المنشود، خاصة في الجهاز الإداري للدولة.

المثال الثالث يتعلق بتصديق الشهادات العلمية أو الجامعية من قبل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار. ولاختصار الموضوع، نفترض أن شخصا ما حصل على شهادة الدكتوراة من جامعة أجنبية معروفة وذات سمعة عالية. ونفترض أن هذا الشخص أكمل المراحل الدراسية السابقة كلها في عمان، بدءًا بالدبلوم العام إلى البكالوريوس إلى الماجستير، ولكنه درس على نفقته الخاصة وحصل على الدكتوراه من تلك الجامعة الأجنبية، ثم عاد إلى البلاد وتقدم إلى الوزارة المذكورة لتصديق شهادته. ومن أجل أن تتم عملية التصديق فإن الوزارة المذكورة تطلب من الخريج شهادة الدبلوم العام أو الثانوية العامة، التي يمكن أن يكون قد مضى على حصوله عليها عشرات السنين، إضافة إلى شهادة البكالوريوس وشهادة الماجستير. وفي بعض الأحيان تطلب الوزارة كذلك صورا لصفحات جواز سفر الخريج، وتحديدا تلك الصفحات التي عليها أختام الدخول والخروج من البلد التي درس فيه! لكن الخريج قد لا يتمكن من تقديم صور تلك الصفحات، إما بسبب استبدال الجواز الذي عليه الأختام بجواز جديد، أو لأي سبب آخر مثل فقدان جواز السفر. وفي كل الأحوال فإن هذه الإجراءات مضنية وتتطلب من الخريج وقتا طويلا وجهدا كبيرا، الأمر الذي قد يؤدي في بعض الحالات إلى أن تزيد فترة الحصول على التصديق على فترة الدراسة، مثلما هو الحال في الجامعات التي يستغرق الحصول على درجة الماجستير منها أقل من سنة. كل ذلك قد يؤدي إلى ضياع فرص عمل كانت متاحة للخريج؛ لأنه لم يستطع تقديم شهاداته الدراسية مصدقة إلى الجهة التي عرضت عليه فرصة العمل. كما أنني أعرف عن حالة أو حالات اضطر فيها خريج بدرجة بكالوريوس إلى اللجوء إلى القضاء؛ لأن الوزارة رفضت تصديق الشهادة، على أساس أن الخريج لم يدرس السنتين الأوليين في نفس الجامعة التي تخرج منها، وإنما درسها في كلية جامعية.

تلك كانت ثلاثة أمثلة، ولستُ بالمتجني على أحد إن قلت إنه في بعض الأحيان يكتنف اتخاذ القرار شيء من المزاجية والشخصنة وليس العمل المؤسسي، و «إن هذا لشيء عجاب» ! وإضافة إلى تلك الأمثلة ربما سنجد بالاستقصاء والبحث أمثلة أخرى أكثر عناء ومشقة، لكن هذا المقال لا يتسع للمزيد منها، وإنما أوردنا بعضها للتذكير بالمعاناة التي يلاقيها بعض الناس، وكذلك للتأكيد على أن الإنجاز والتقدم يحتاجان، بالإضافة إلى الإرادة، معرفة وابتكارا من أجل التسهيل وإيجاد حل للمشكلات، وليس إلى تعقيدات وإجراءات مطولة بدعوى التنظيم والتحقق. والله الهادي إلى سواء السبيل.