شبكات التواصل الحديثة وأهمية التوجيه الصحيح للقيم
في أكثر من مناسبة تحدّث جلالة السلطان هيثم بن طارق ـ حفظه الله ورعاه ـ سواء في اللقاء مع الشيوخ والأعيان في بعض المحافظات العام المنصرم، أو في اللقاء الأخير بمجلس الوزراء في يناير هذا العام، عن أهمية اكتساب الأبناء القيم الصحيحة من التربية الأسرية، وليس من الفضاء المفتوح بخيره وشره، ومما قاله جلالته حفظه الله: «نظرًا لما يشهده العالم من تغيرات في السلوكيات والمفاهيم وترسيخ البعض لمفاهيمهم، واستغلال مبادئ حقوق الإنسان، وغيرها من المبررات لفرض رؤى وبرامج وسلوكيات لا تتفق مع الثوابت والمبادئ السائدة» أكد جلالته: «على أهمية العمل على ترسيخ المبادئ والقيم العُمانية الأصيلة المستمدة من تعاليم ديننا الحنيف، وحث الأسر على الأخذ بأيدي أبنائها وتربيتهم التربية الصالحة». ولا شك أن هذا التوجيه السامي من جلالته على أهمية تقويم وترسيخ القيم الوطنية العمانية، يعد مطلبًا ملحًا لا غنى عنه، في أن تقوم الأسرة بدورها في الإرشاد السليم والتوجيه القويم، والغرس النافع للأبناء، وهذه مسألة ضرورية من المهم أن تأخذ الأولوية في هذا الفضاء المفتوح، فقد أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي تقوم بما يفترض أن تقوم به الأسرة من حيث استلهام الأفكار والرؤى من داخل بيئتها الوطنية والدينية، وتلك مشكلة فكرية واجتماعية لها آثارها السلبية، إن لم نتداركها بوعي واهتمام، فقد تنحرف هذه الشبكات بهم، وهم في مقتبل العمر أو في زهرة الشباب، إلى أفعال وممارسات خاطئة، تحاسب عليها القوانين، ومنها سلوكيات خطيرة كالعنف والجريمة، واستغلال بعض التيارات الفكرية والسياسية في دعوة هؤلاء الشباب إلى ممارسات خطيرة ومرفوضة من ديننا وقيمنا العمانية الأصيلة.
ولا شك أن شبكات التواصل الاجتماعي فيها من المفيد والإيجابي، وفيها ما هو سلبي ومرفوض، وخاصة تأثيرها على الأجيال الجديدة من الشباب، التي لا تملك الحصانة الفكرية التي تعرف التمييز والفرز والانتقاء بين هذا الكم الهائل من المرسل إليهم، في هذا الفضاء التي لا يستطيع أحد حجبه أو وقفه، فليس الجميع في هذا السن يملك القدرات الكافية الناضجة، لعدم قبول أو رفض ما يأتي في هذا الفضاء المعلوماتي الضخم، من هنا لا بد من التأسيس الجيد للنشء من القيم والأفكار الإيجابية التي تنبع من قيم ديننا الحنيف والقيم الوطنية الأصيلة، وما رسخّه الآباء والأجداد من العادات والتقاليد التي تنطلق من هذا الدين، والتي أصبحت راسخة، لذلك التربية الأولى للأبناء من مهام الأسرة؛ كونها حاجة وضرورة، خاصة مع التحولات والتغيرات الفكرية والسلوكية في هذا العصر الذي يموج بالأفكار والتيارات والفلسفات المغايرة والضارة، حتى أن أحد الباحثين عن شبكات التواصل الاجتماعي، سمّى هذه الوسائط بـ(إشكالية الشر المعلوماتي)؛ لما تبثه من معلومات بعضها توصف بالشر، بسبب الحمولة الفكرية الخطيرة فيها والتي تنشرها عبر هذه الوسائط، وهذا لا يعني أن كل ما يبث كله يمثل شرًا أو سلبًا، إنما الإشكال أن هذا الشر كامن بين جنبات هذا الفضاء المفتوح، دون أن يملك أحد وقفه أو يستطيع السيطرة عليه، وهذه من إشكاليات هذه الوسائط وقدرتها على النفاذ.
لذلك فالأمر يحتاج إلى وعي وإدراك بالمتغيرات والتحولات في عالم اليوم، كما أن البعض يخلطون بين التفاعل مع القيم الحضارية للغرب، واكتساب التطور العلمي والتقني الذي تقدم وتحتاج الأمم الأخرى الاستفادة من هذه المكتسبات، وبين أن نكون متلقين وملتحقين بالآخر المختلف في كل شيء، دون أن يكون لنا خيار ورؤى فيما يبث ويطرح ونقده، ودون توازن بين هذا وذاك، وبين ما نأخذ وبين ما نترك، وهذه رؤية تحتاج إلى نظرة واعية في هذا الأمر، وهو أنه يجب ألا نحرق المراحل، ونقفز إلى بعض ما هو متاح في هذا الفضاء، دون مراعاة الرصيد الوطني وقيمه وموروثه الفكري والديني، فقضية دعوات البعض عن أهمية التفاعل مع الآخر، كلمة جميلة لا شك في ذلك، لكن هذا التفاعل لا يجعلنا نتخلى عن رصيدنا القيمي والاستمساك به، باعتباره الإطار المرجعي للثقافة الوطنية، والغرب نفسه سار في هذا الاتجاه، وهذا حقه، وحق كل الأمم والشعوب في أن تحافظ على قيمها والمحافظة عليه، وأن تتمسك بثقافتها، فعندما انفتح الغرب على العلامة والفيلسوف العربي ابن رشد، الشارح الأكبر للفيلسوف اليوناني «ارسطوطاليس»، الذي حفظ للغرب ابن رشد فلسفته الإغريقية، وأضاف إليها، حتى تم تأسيس ما سمي(الفلسفة الرشدية) في الغرب، والتي تبنت أفكاره وإضافاته وشروحاته، لكنهم أهملوا فكر ابن رشد وثقافته التي تنتمي إلى الثقافة العربية الإسلامية، وأخذوا ثقافتهم، وتجاهلوا العالم والفقيه والمتكلم، وهذه هي الأمم تأخذ من ثقافتها ما يجسد فكرها ورؤيتها للحياة والكون والوجود، لذلك علينا نحن أن نأخذ من الغرب ما يوافق رؤيتنا وقيمنا، لكن المشتركات الإنسانية في العلوم العامة وتقنياتها لا خلاف حولها، لذلك فالنزعة التي يسخرها الغرب لتحطيم الهويات الأخرى ـ إن صحت هذه المقولة ـ ليست خالية من الأيديولوجيا المضادة للثقافات الإنسانية، فهي تبرر هذا الاكتساح العملاق بمفاهيم حديثة وجذابة مثل التقدم الاقتصادي والرخاء المادي والديمقراطية والليبرالية وغيره، لكن البعض يشكك في هذه المقولات، ويعدها مجرد طرح فضفاض ومغاير للواقع الذي تستهدف هذه الأفكار المعولمة وما سبقها من مفاهيم في هذا السياق وهو فرض ما سمي الثقافة الغالبة على الآخرين!.
صحيح أن الانغلاق والتقوقع والجمود، دون تغيير غير ممكن لكل جديد في مجال العلم والاختراع والتطور في مجال التقنيات، وليس البديل من جهة أخرى الاستسلام والذوبان في الآخر المختلف ـ كما يطالب بعض ممن تأثر بالغرب دون فرز وانتقاء ـ وهذا ما أشار إليه المفكر الجزائري مالك بن نبي عندما قال:إن مقاييس الذاتية التي تتمثل في قولنا (هذا جميل) و (ذاك قبيح)، هذه المقاييس هي التي تحدد سلوكنا الاجتماعي في عمومه، كما تحدد موقفنا أمام المشكلات قبل أن تتدخل عقولنا، إنها تحدد دور العقل ذاته إلى درجة معينة، وهي مع ذلك درجة كافية تسمح لنا بتمييز فاعليته الاجتماعية في مجتمع معين بالنسبة لمجتمع آخر، وهذه المعايير في الأخذ والعطاء مهمة حتى لا نقع في الاستلاب الفكري والثقافي، ونخرج من المعادلة التي تميزنا عن الآخر، مثلما وقعت فيه أمم أخرى وفق معايير خاطئة، وخلطت بين التفاعل مع الآخر وبين الانصهار فيه، وهذا هو الخطر الذي من المهم الانتباه إليه ـ كما أشار إلى ذلك جلالة السلطان هيثم بن طارق ـ أيده الله ـ في كلمته، المشار إليها آنفا ـ ولذلك التوجيه والإرشاد في المرحلة الأولى للنشء يعد من واجبات الأسرة للأبناء، وأثرها الحقيقي أقوى قبل الانفتاح على العالم وتحولاته الفكرية في عصرنا الراهن، ومثلها مثل البناء المادي ـ المنزل مثلًا ـ إن لم يؤسس على القواعد والخرسانات القادرة على الصمود أمام العواصف والفيضانات، فالبناء سينهار مع الوقت، ويصف الباحث محمد قطب الشاذلي في وصف تقريبي لمعنى التأسيس والقدرة على المقاومة، وإن كان حراكها محدودًا كما قال، فمثلًا:شجرة اللبلاب من أضعف الشجر عودًا؛ لأنها شجرة متسلقة لا تستطيع أن تعتمد على ذاتها، ولا بد أن تستند إلى شيء تتسلقه وتنمو فوقه.. ولكن كيف تصبح حين تأخذ مداها من النمو والتسلق والتشابك بمداداتها التي تشتبك عن طريقها بالأشياء؟! إنها تسد عليك الطريق، ولا تستطيع المرور من خلالها إلا بالجهد.
والكثير من الدراسات الحديثة حول ظاهرة غياب التربية الصحيحة في هذا العصر مع بروز التقنيات الحديثة، تحتاج إلى مراجعة جدية من الأسرة، وأثرها مهم في بناء شخصية الطفل وفعله الاتصالي وسلوكه الاجتماعي، وآرائه وقناعاته ومواقفه وسلوكه أيضًا، لذلك فالوقت الطويل الذي يقضيه الطفل في مشاهدة وسائل التواصل الاجتماعي، تجعل منها مصدرًا لإمداده بالمعلومات، وتكوين شخصيته ومعتقداته التي قد يتلقاها دون الوعي بسلبياتها الفكرية والثقافية، وقد تحوله إلى مجرد مستهلك سلبي وعقيم الفكر ومرتبك في الفهم والوعي، مما قد يقف حائلًا دون تطوير قدراته وطاقاته الإبداعية، بعكس أو لو أخذها من قيمه وفكره، كما تربى عليها.
لقد كانت الدولة في الماضي ـ إلى حد ما ـ هي المصدر الوحيد للمعلومات، أما الآن فإن تطور تقنيات الاتصال ستجعل الثقافة العالمية تنساب عبر الحدود، الأمر الذي يجعل من المتعذر السيطرة على تدفق المعلومات الهائلة ومراقبتها، فالنزعة التي يسخّرها الغرب لتحطيم الهويات الأخرى ـ إن صحت هذه المقولة ـ ليست خالية من الأيديولوجيا المضادة للثقافات الإنسانية، فهي تبرر هذا الاكتساح العملاق بمفاهيم حديثة وجذابة مثل التقدم الاقتصادي والرخاء المادي والديمقراطية والليبرالية وغيره، وهذا القول يخالف أبجديات الواقع ومتغيراته، فقد أصبحت الشبكة العنكبوتية تحدث تغيرًا في المجتمعات الإنسانية كلها، بما تبثه عبر هذه الوسائط، من هنا ـ كما يقال ـ الكرة في ملعب الأسرة، كيف نضع لأبنائنا الوسائل التي تحصنهم، من خلال تربية سليمة تسبق انفتاحهم على هذه التقنيات وما تبثه من أفكار ومعلومات.
