سلة النوستالوجيا

13 ديسمبر 2022
13 ديسمبر 2022

سئل تيم كوك الرئيس التنفيذي لشركة أبل عن تعريفه للابتكار، جاء رده مختصرًا ووافيًا، قال: «يرى بعض الناس الابتكار على أنه تغيير، لكننا لم نره يومًا على هذا النحو، إنما هو ما يجعل حياتنا أفضل»، وهي رسالة عميقة وذات مغزى لصانعي التغيير من العلماء والمبتكرين الشباب، مما يستدعي ضرورة التمييز بين مجمل التغيير وبين الابتكار، والإدراك الواعي بأن مقاومة الابتكار إنما ينبع من اللبس في رسم الخطوط الفاصلة بين الجهود الابتكارية وبين خطط التغيير، التي هي بالأساس أنشطة ومحاولات موجهة نحو التحول، وتستهدف تعديل أو تغيير الوضع الراهن، ينتج عنها القليل من التغيير أو لا يحدث أي تغيير على الإطلاق، بينما يعتبر الابتكار عملية منظمة وواعية للتطوير ويحمل نهجًا مختلفًا في طرح الحلول للتحديات.

ولذلك فإن التغيير الناتج عن الابتكار له منظور تاريخي وسياقي وعملي، أما تاريخيًا فلأنه يرتبط أفقيًا عبر الزمن الماضي والحاضر والمستقبل، والبعد السياقي يأتي من الترابط العمودي من خلال المستويات المختلفة المؤسسية والمجتمعية والفردية، وهو كذلك إجرائي لأنه يربط بين العملية والنواتج، مع الأخذ في الحسبان أن الابتكار قد ينتج أيضًا من أنشطة غير مقصودة، وهذا ما يميز الجهود الابتكارية من خطط التغيير، كونها عملية مستمرة، فهي بحاجة إلى إمدادات جيدة ومتواصلة من الأفكار الجديدة لحل التحديات الحالية أو المستقبلية، التي تمثل القوة الدافعة للابتكار.

مع سرعة التغييرات الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية أصبحت الحاجة لتضمين الابتكار في سياق العمل المؤسسي حقيقة بديهية، والشواهد كثيرة على المؤسسات الرائدة عالميًا التي ينصب نشاطها الرئيسي حول الابتكار، وانتشرت في مطلع الألفية الثالثة شعارًا لفظيًا في عالم الأعمال مفاده «ابتكر أو ارحل»، مما أوجد العديد من الأطر المفاهيمية المتعلقة بالابتكار والإبداع والفكر الخلَّاق، وفرض على المجتمعات الصناعية ضرورة عبور المرحلة الانتقالية، من عصر المعلومات إلى حقبة التوظيف المفاهيمي لتوليد المعرفة النافعة، وأسهمت هذه الأطر بدورها في تسليط الضوء على النقاط العمياء في المحاور التنظيمية، وفي مقدمتها موضوع مقاومة الابتكار.

إذ يؤكد الباحثون والمفكرون والمهتمون بالجوانب السيكولوجية والنفسية لنظريات الانتشار المتعلقة بالابتكار التكنولوجي، بأن محاولة فهم السبب والكيفية التي يمكن من خلالهما للمؤسسات والمجتمعات للأفراد تبني أو رفض الابتكار ليست بالأمر الهين، هذا ما أوجد مصطلح «المُتبنون الأوائل للتكنولوجيا» وهم قادة الممارسات والسلوكيات الابتكارية في عملية الانتشار، الذين يتفاعلون مع خمس فئات في عملية تبني الابتكار وهم المبتكرون وفئة الأوائل والأغلبية السبَّاقة ثم الأغلبية المتأخرة وأخيرًا وفئة المتقاعسين، أما على المستوى الفعلي فإن عملية تبني الابتكار تمر بعدة مراحل، تبدأ بالمعرفة والوعي بالدوافع من وراء الابتكار، ثم تأتي مرحلة إقناع جميع الفئات الخمسة لتعزيز اتجاهات إيجابية تساعد على تقوية عمليات التبني الناجح للابتكار، ثم مرحلة اتخاذ قرار تبني الابتكار ووضع خطة التنفيذ المناسبة.

وحيث إن تبني الابتكار يقع ضمن المنظومة الاجتماعية للمؤسسة أو المجتمع أو الأفراد، فإن مقاومة الابتكار قد تنشأ في جميع المراحل الثلاث، لكن أشدها يحدث خلال مرحلة الإقناع، وتمت دراسة ذلك على مستوى تخصصات مختلفة، متضمنة في ذلك العلوم الأساسية، والزراعة والغذاء والبيئة، والتجارة وإدارة الأعمال، والصحة، وعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، والتعليم، كان الهدف من هذه الدراسات توصيف الكيفية التي يتم من خلالها تبني أو مقاومة عمليات تبني الابتكار في المؤسسة، أو على مستوى المجتمع بأكمله، وكذلك وصف المعدل الخاص بالتغيير الناجم عن تبني الابتكار، والدافع وراء هذا التغيير، وفهم مدى تغلغل الابتكار في الممارسات والتفكير والثقافة الناشئة، أجمعت الدراسات بأن فكر مقاومة الابتكار لا يختلف جذريا عن مقاومة خطط التغيير، إذ أن منبعها الرئيسي هو عدم الثقة في «حتمية الفائدة» المرجوة من تبني الابتكار، والمخاوف المتصاعدة من الآثار غير المرغوبة.

فإذا أخذنا على سبيل المثال ابتكارات تكنولوجيا الغذاء نجد بأنها ساهمت بشكل كبير في تحسين كفاءة الموارد في النظم الغذائية، وزيادة جودة وسلامة الغذاء، ودعم تطوير منتجات غذائية مبتكرة من تقنيات التوليف الجيني والهندسة الوراثية، وتأتي في مقدمة الابتكارات المؤثرة في وقتنا الراهن تسخير التقنيات المعلوماتية مثل سلسلة الكتل لضمان شفافية البيانات وتكاملها، وإتاحة إمكانية التتبع عبر سلسلة التوريد، وتوظيف الذكاء الاصطناعي لتقليل الفاقد والمهدر على طول سلسلة القيمة الغذائية، وتوجيه تقنيات الاتصالات لدعم التوعية بالتغذية الصحية المتوازنة وأنماط الاستهلاك الواعية.

ومع جميع هذه المزايا لم تخلُ ابتكارات إنتاج الغذاء من المقاومة وفشل التطبيق، فعملية مواكبة التقنيات الجديدة وتطبيق الابتكارات يتطلب أكثر من خطة التسويق، إذ ينبغي انتهاج الحيادية والموضوعية في الترويج للابتكارات الجديدة، والتركيز على القيمة الجوهرية للابتكار، والابتعاد عن التحيز المطلق والمؤيد لتوجيه الفئات المستهدفة نحو تبني هذه الابتكارات، مثل حملة الترويج الواسعة للأنواع المحسنة من البذور الناتجة من ابتكارات الهندسة الوراثية، التي انتشرت بنهاية القرن الماضي، والتي بالغت في تضخيم الفوائد والمزايا الكثيرة التي يتطلع إليها المنتجون، كانت أنواع الذرة المهجنة تلك بلا شك مربحة لمزارعي بعض الولايات الأمريكية، ساعد على انتشارها أفضليات المستهلكين والظروف المناخية التي كانت متوائمة مع السعة الإنتاجية للبذور المحسنة، لكن الأنواع الأخرى التي تم ابتكارها لاحقًا لم تتمتع بالدرجة العالية ذاتها من الميزة النسبية، مما أفقدها القبول لدى المزارعين، وشكلت عقبة لمقاومة الابتكارات التي ظهرت بعدها بالتتابع.

تتكرر الحالات في قطاع تكنولوجيات الإنتاج الغذائي المبتكر، خصوصا مع ظهور العديد من التطورات غير المألوفة مثل إنتاج اللحوم في المختبر، وإدخال التقنيات المتقدمة في طرق التصنيع الغذائي، في الإطار نفسه ابتكر طالب درجة الدكتوراه في جامعة إيث زيورخ البحثية السويسرية، طريقة التجفيف الكهروهيدروديناميكي للمواد الغذائية الحساسة للحرارة باستخدام الهواء المؤين، وهي طريقة ذات كفاءة عالية في استخدام الطاقة، وتم الترويج لهذا الابتكار بأن نواتج هذه التقنية من المواد الغذائية تتميز بدرجة عالية من الجودة، إذ تحتفظ بلونها ونكهتها بخلاف طرق التجفيف التقليدية، وأُطلق على هذه الطريقة الابتكارية «الرياح الأيونية»، لكن حملات التسويق زرعت المخاوف لدى المستهلكين بشأن موضوعات السلامة الغذائية، والآثار الصحية المحتملة بالأثر التراكمي على المدى الطويل.

وهنا سؤال يطرح نفسه، هل تعكف البشرية الآن على تطوير وتعزيز كمٍ هائلٍ من الابتكارات التكنولوجية دون دراسة أو حتى تقدير لآثارها الجانبية، أو الآثار طويلة المدى على حياة الإنسان وعلى الكوكب؟ وهل يبدو أن الوتيرة متسارعة في عصر دفع بالمجتمع والحياة والبشرية إلى حقبة النانو والتكنولوجيا الإلكترونية؟ وهل سيأتي اليوم الذي تحن فيه المجتمعات إلى حياتها السابقة قبل جميع التطورات والابتكارات التكنولوجية؟ ها قد حان الوقت للالتفات إلى هذا البعد الغائب، والوقوف لبرهة ومحاولة فهم سيكولوجية البشر وعلاقتها مع التقدم العلمي الخاطف، وتأثير عبء محاولات اللحاق بالثورات التكنولوجية، لتجنب احتمالات استمرار التقادم العلمي والمعرفي، مع قلة الموارد المعرفية والعقول المبتكرة والمواهب المتنوعة والعابرة للقطاعات، إذ يجادل العديد من النقاد في أوروبا وآسيا بأن التطور السريع للابتكارات العلمية وكثافة الترويج لها هما السبب الجذري للفجوة المتزايدة بين من يملكون المعرفة ومن لا يملكونها في هذا العالم، مما يفرض على العلماء والمبتكرين ضرورة أن يصبحوا أكثر واقعية في توجيه خبراتهم وجهودهم ومعارفهم لدعم الإنتاجية والدفع بالبشرية نحو المزيد من جودة الحياة، بدلاً من الاستمرار.

على الرغم من أنه يسهل التنظير حول المؤسسات والمجتمعات التي تقاوم تبني الابتكارات، إلا أنه من الأجدر فهم البناء السيكولوجي لهذا الإحجام، تحديدا محور المخاطر المتصورة والمرتبطة بتبني الابتكار، كونه أهم المحددات لتوليد هذه المقاومة، وإن كان غياب المخاطر في العموم لا يضمن انحسارها بشكل كلي، فالمنظومة الاجتماعية للابتكار قد ترفض تبني أي تجديد أو تطوير يتعارض مع العادات أو الممارسات القائمة والمتأصلة، وبالتالي فإن درجة وطبيعة المقاومة ترتبط أيضا بعمق العادات السابقة للابتكار، ومدى واقعية تصورات المخاطر العالية حولها، وإذا صادف وجود كل من التعلق بالعادات مع احتمال المخاطر معاً تصبح مقاومة الابتكار عميقة ومزدوجة.

في مثل هذه الحالات المزدوجة يجب التركيز أولا على فهم وإذابة سيكولوجية مقاومة الابتكار، ثم تطوير برامج موجهة ومحددة للتقليل من تصورات المخاطر من جهة، والعمل على تشجيع التحولات الصغيرة في العادات الحالية القائمة بدلًا من محاولة استبدالها دفعة واحدة، ونستشهد هنا بأحد أكثر الأمثلة الكلاسيكية شيوعا في هذا المجال، وهو فشل انتشار القهوة المجففة بالتجميد، وفشل الأغذية عالية البروتين التي ظهرت كأحد الابتكارات المميزة لإنتاج الأطعمة الصحية منخفضة التكلفة، لاقت هذه الابتكارات رواجا في المجتمعات الغربية، أما في الدول الأقل تقدمًا فقد فقدت هذه الأغذية بريقها كبديل صحي متاح لمعظم الفئات المجتمعية، برغم الاستثمارات الضخمة والتقنية الهائلة الداخلة في عملية التصنيع، ووجد المروجون للأغذية الصحية وأنماط الحياة المتوازنة بأنهم قد يكونون أفضل حالًا لو أن هذه الابتكارات تم تقييمها وتجريبها قبلًا، لكان أمكنهم تقديم هذه التغذية بشكل مشروبات أو مواد سائلة بدلا من الأطعمة الصلبة، لأن العادات الاجتماعية والتقاليد المتأصلة مضمنة بقوة أكبر في الأطعمة الصلبة، ورافق ذلك ارتفاع عدم اليقين في فوائد هذه الأغذية المصنعة، وبذلك فإن المخاطر الاقتصادية والاجتماعية والصحية والثقافية كانت أكبر بكثير من برامج الترويج والتسويق لهذه المنتجات، التي لم تلتفت لجزئية ملاءمة هذه الابتكارات مع اختلاف الثقافات.

إن التقدم المعرفي والتكنولوجي مهما بلغ أوجه، لا يمكنه إنتاج ابتكارات خارقة تعبر جميع المجتمعات والأقاليم ويتبناها جميع البشر، لا بد من الالتفات إلى الأبعاد الأخرى التي هي بمثابة العوامل الحاسمة في تبني أو رفض هذه الابتكارات، فمع تعطش البشرية للمعرفة ورغبتها الأزلية في التطور والاكتشاف، هناك أيضا ميول عميقة للتشبث بحياته وعاداته وماضيه، التحدي الأكبر في إيجاد نقطة التعادل.

د. جميلة الهنائية كاتبة وباحثة في سياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار.