سرديات الصراع السياسي بين المصطلح والتعمية

10 ديسمبر 2023
10 ديسمبر 2023

قوة الكلمات وطاقتها لا يمكن إدراكها من الكلمة وحدها منبتَّة عن سياقها الدلالي، ومقطوعة عن تركيبها السردي العام، وهكذا يستخدم السياسيون اللغة بمصطلحاتها ومرجعياتها السردية لخدمة مصالحهم متى ما استشعروا أهمية ذلك وجدواه، مصطلح «السرديات الكبرى» ظهر على يد الفيلسوف والأديب الفرنسي جان فرانسوا ليوتار الذي أكد أن ما بعد الحداثة يتصف بافتقاد الثقة بالسرديات الكبرى في كتابه «حالة ما بعد الحداثة «عام 1979م، طرح ليوتار رأيه حول السرديات الكبرى التي هي» ذلك النمط من الخطابات التي تتمركز حول افتراضاتها المسبقة ولا تسمح بالتعددية والاختلاف حتى مع تنوع السياقات الاجتماعية والثقافية، فضلاً عن أنها تنكر إمكانية قيام أي نوع من أنواع المعرفة أو الحقيقة خارجها وتقاوم أي محاولة للتغيير أو النقد أو المراجعة، تقف تلك الخطابات أو السرديات الكبرى خارج الزمن ولا تسمح بالشك في مصداقيتها وتصر على أنها تحمل في داخلها تصورات شمولية للمجتمع والثقافة والتاريخ والكون، ودائما ما تكون السرديات الكبرى ذات طبيعة سلطوية واقصائية تمارس التهميش ضد كل أنواع الخطابات الأخرى الممكنة»

لعلّ الأمر أكبر من أن يخفى اليوم مع ما نعاصره من صراعات سياسية وتنافسات اقتصادية كبرى، فلم يعد مستغربا أن يكون للمصطلح مفاهيم مختلفة ودلالات قد تصل للتناقض فعليا وفقا لسياقها المستخدم، أو لقوة وتأثير السارد الذي يحدث أن يكون واضعا أولا لمفهوم متعارف عليه لمصطلح أراد به منفعة مؤقتة ذات صراع أو تنافس، والسارد ذاته يريد لهذا المصطلح مفهوما آخر في صراع آخر يريد به التعمية والتضليل على المفهوم أو المفاهيم السابقة لذات المصطلح.

ومن ذلك مصطلح «الإرهاب» الذي علكته كثير من الجماعات والتنظيمات والمنظمات الحقوقية أمميا على مدار ما يزيد عن نصف قرن في محاولة لجعله مبررا سائغا لكثير من أعمال العنف الدولية السابقة لانتهاك أمن كثير من الدول واستنزاف الكثير من الموارد الطبيعية لشعوب غير آمنة حول العالم، وليس هذا بالحديث المفتعل، لكنه الثابت بأدلة يقينية من تحقيقات أممية لاحقة في آثار جرائم تلك التدخلات العسكرية النفعية في كثير من الدول، ولا تصل (ولن تصل) تلك التحقيقات لنتيجة أو محاسبة -فضلا عن العقاب- إن كان القضاة هم المتهمون والمحكمة برمتها هي صانع ذلك المبرر وتلك المسوغات غطاءً تشريعيا لجرائم العصر، ومظلة آمنة لاستغلال الشعوب.

مرورا على مصطلح «الإرهاب» وتعريفه وفقا للمرجعيات الغربية نجده مرتبطا ارتباطاً وثيقاً بالاغتصاب وأخذ الأشياء دون وجه حق عن طريق ممارسة أعمال التخويف في الخفاء، وإن كان هذا المفهوم هو السائد مبررا لكثير من المنظمات الغربية تصنيفها جماعات وأفرادا وفقا لمعطياته فهل يمكن تطبيقه اليوم على ممارسات إسرائيل؟ وتمويل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وكندا وفرنسا وألمانيا لهذه الممارسات لتجعلهم جميعا إرهابيين مع سبق الإصرار والترصد؟ إذ تجاوزت هذه الممارسات في القتل والتهجير وتمويل أكبر آلة عسكرية في العالم لتصفية شعب بأكمله، وتبرير سرقة أرضه بحجة محاولة النيل من جماعة إرهابية، ولعل التلقي العاقل يطرح تساؤلا منطقيا أن قد مر بهذه الدول في تاريخها المعاصر كثيرٌ من العمليات الإرهابية المُدّعاة في أرضها فلماذا لم تكن ردة الفعل العسكرية موجودة حينها لتصفية هذه الأعمال الإرهابية بتدمير كامل الأرض، أو حتى كامل الموقع فقط؟ وكأننا بهم ينسفون كل نظرياتهم حال تبرير الهجوم على مستشفى أو مؤسسة تعليمية أو أي منشأة مدنية لمجرد دخول لص إليها، هذا إذا سلمنا جدلا بتعريفهم للإرهابي، وتصنيفهم للإجرام، ومع كل ذلك نتساءل: أليس هجومهم المدعم بأخطر الأسلحة طوال أشهر على شعب فلسطين إرهابا؟! هل من شك في أن تأييدهم للقتل وتصفية الأبرياء إرهاب لا شبهة فيه ولا مراء حوله؟!

بناء السرديات الداعمة والمضللة امتياز إسرائيلي منذ عقود، ولا يمكن حصر ذلك في حالة واحدة أو مثال مخصوص؛ إذ درجت مروياتهم على بناء مصطلحات خادمة لأجندة واضحة الأهداف منذ حصرهم للسامية في «إسرائيل» وحدها دون غيرها، وتخويف المنافسين والمختلف من أن أي انتقاد أو اعتراض على ما يصدر عن إسرائيل وأهدافها هو عداء واضح للسامية، مستحق صاحبه للعقاب واللعنة، مرورا بتضليل مصطلحات واضحة في سياق يتم توجيهه وإدارته وفقا لمصلحة إسرائيل عبر آلة الإعلام الغربية الداعمة والمتواطئة، بحيث نجد ضمن الهجوم الدولي -من قبل ما يزيد عن خمس دول كبرى واضحة التبني لدعم آلة القتل والتصفية في أرض عربية، فضلا عن غير المعلن من ولاءات وتحالفات- ضحايا مدنيين من إسرائيل مقابل قتلى من الفلسطينيين، ورهائن وأسرى الإسرائيليين مقابل سجناء الفلسطينيين حتى حين يكون السجناء أطفالا بلا جرم، والاعتداءات عمليات عسكرية من قبل إسرائيل وحلفائها مقابل الإرهاب وجماعات المخربين من قبل المقاومة.

ختاما: إن كان من نصر يمكن تأكيده خلال هذه الفترة العصيبة من الواقع العربي المتنازِع بين شتات وانهزام وفرقة فما هو إلا الانتصار لاستقرار المصطلح جماهيريا بعد زعزعته لعقود عبر آلة الإعلام الغربية، حين كشف الإعلام غير التقليدي اليوم عن مرويات جديدة صادمة للشعوب الغربية، وسرديات مختلفة موثقة بالحجج والبراهين جعلت من حكايات الماضي أكذوبة تاريخية، ومن مظلمته طعما مُستهلكا لاضطهاد وتهجير الشعوب، فلم يعد ممكنا بعد اليوم تكرار موال معاداة السامية لرفض العنف الإسرائيلي، ووحشية السعي لانتزاع دولة إرهابية مصنوعة من تدمير وطن وتهجير شعب، وتخويف وترويع آمنين، كما لم يعد ممكنا تزيين صورة المجرم بسرديات تلبس الذئب زي الضحية مع ثبوت الدم وقرائن الجرم في ساحته وساحة حلفائه، ولو لم يكن لغزة من دروس غير هذا النجاح المؤزر في دفع الشعوب للتقصي والبحث عن الحقيقة المجردة، بعيدا عن أباطيل الإعلام السياسي، وأحجيّات التعمية الشعبية عالميا لكان حسبها من النصر الحقيقة بعد عقود من تسويق الباطل وترويج الوهم ليتحول التعبير عن الرأي قتالا ظاهرا كما يقول جان فرانسوا ليوتار «أن تتكلم فهذا يعني أنك تقاتل».

حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية