سراج.. قراءة في مضامين الوقف التعليمي

07 فبراير 2023
07 فبراير 2023

قبل ما يقارب من أربعة قرون من الزمن، أسّس المهاجر البريطاني جون هارفارد جامعة وقفية في الولايات المتحدة الأمريكية، لتكون بذلك مناظرة لكل من جامعة كامبريدج وأكسفورد البريطانيتين، وهب جون هارفارد مبنى في ولاية ماساتشوستس، ومجموعة من الكتب النفيسة، والمراجع العلمية التي بلغت 400 مصنف لطلبة العلم والباحثين، وأوقف مبلغا ماليا سخيا وقتها، وهو 100 جنيه إسترليني، توفي المهاجر بعدها بسنتين من جراء إصابته بالسل، لم يرَ بعينيه الجامعة التي حلم بها، تأسست الجامعة الوقفية رسميا بتصويت الأغلبية في المحكمة العليا لمستعمرة خليج ماساتشوستس، وأُطلِق عليها جامعة هارفارد تخليدا لمؤسسها، وهي أقدم مؤسسة تعليمية في الولايات المتحدة، تخرّج فيها ثمانية رؤساء لأمريكا، وعدد كبير من قادة ورؤساء الدول الأخرى، وأجيال لا تُحصى من العلماء والباحثين والمفكرين والمؤرخين وأصحاب الأعمال والمؤثرين على مستوى العالم. تعتلي جامعة هارفارد الهرم الأكاديمي العالمي، إذ تُصنف بالمركز الأول لأغلب تصنيفات الجودة الأكاديمية.

دعونا ننظر لإحصاءات التقرير المالي للعام المنصرم، حيث بلغ حجم وقف جامعة هارفارد ما قيمته 50.9 مليار دولار أمريكي من 14.000 صندوق استثماري، أي ما يوازي احتياطي البنك المركزي في جنوب أفريقيا أو في نيذرلاند، وبلغت نفقات التشغيل السنوية للجامعة 5.4 مليار دولار، في حين شكَّلت المنح الدراسية والبحثية من إجمالي الهبات ما قيمته 677 مليون دولار، وبلغ حجم المساعدات المالية الموجهة للطلبة 506 ملايين دولار، وتم تخصيص 70% من التوزيع السنوي من عائدات الوقف للبرامج البحثية الاستراتيجية، وتمويل كراسي الأستاذية التي تدعم رسالة جامعة هارفارد، المتمثلة في تحقيق التميز الأكاديمي والعلمي، وتسخير المعرفة والفكر الإنساني المبدع، والعلوم والتكنولوجيا للرخاء والتقدم ورفاه البشر.

يعد وقف جامعة هارفارد من التجارب الرائدة على مستوى العالم، فقد حافظت على أصالتها وتميزها على مدى أربعة قرون، ومن الأسباب القوية لنجاحها هو مبدأ تأسيسها الذي يقوم على الاستمرارية، فالهبات والمنح التي تستقبلها الجامعة موجهة لجميع الأجيال، الحالية منها والقادمة من طلاب وعلماء ومفكرين، واسترشادا بمبدأ العدالة بين الأجيال، تتم إدارة أموال الوقف، والأصول الماليّة بعناية من قبل شركة أوقاف جامعة هارفارد، التي عملت وفق نماذج إدارية واستثمارية متميزة، لضمان استدامة الجامعة ماليا بما يحقق أهدافها طويلة الأمد، وكذلك من أجل الحفاظ على الثقة المؤسسية التي رسّختها، وتوجيهها نحو استمرار وتوسيع قيادتها للعالم في مجال التعليم الجامعي والبحث العلمي والابتكار.

ألهمت جامعة هارفارد جميع دول العالم فانتشرت الأوقاف التعليمية مفهوما وممارسة، وتمكنت مؤسسات التعليم العالي من استنساخ هذه التجربة الرائدة لتحقيق التنوع في مواردها المالية، فأصبحت العقود البحثية وعوائد استثمارات الأوقاف في مقدمة البنود الداعمة للتمويل، بجانب الدعم الحكومي التقليدي، ونجحت الأوقاف التعليمية في تعزيز القيم المجتمعية، وإبراز إسهامها الفعلي في دعم عدالة الفرص في الوصول للتعليم الجامعي، وتمكين الفئات الأكثر احتياجا مثل الطلبة المعوزين وذوي الإعاقة، كما أن الأوقاف التعليمية تسهم بصورة كبيرة في التركيز على فئة الموهوبين وتطويرهم.

فإذا نظرنا إلى واقع التعليم الجامعي في اقتصاديات الدول الأقل تطورا، نجد أن الاعتماد على التمويل الحكومي لا يزال يتصدر قائمة مصادر الدعم المالي للأنشطة التعليمية والبحثية والابتكارية، باستثناء عدد يسير من الأمثلة، ولا يزال تفعيل الأوقاف التعليمية محدودا، رغم أن الوقف كمفهوم للعمل الخيري التطوعي قد تأصل في المجتمعات الإسلامية منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، والشواهد على الأوقاف الخالدة حتى يومنا هذا كثيرة، وعلى رأسها وقف سيدنا عثمان بن عفان، ووقف زبيدة بنت جعفر، وكذلك وقف الإمام الوارث بن كعب الخروصي، والقارئ في وقفيات التعليم في التاريخ الإسلامي يجد أن الخبرة والمعرفة التراكمية قد ألهمت العديد من الخبرات العالمية، واتسمت هذه الخبرة بالتنوع والثراء، فمتطلبات التعليم اختلفت من عصر إلى عصر، وهذا الثراء الفكري والمعرفي في الأوقاف عموما وفي الوقفيات التعليمية على وجه الخصوص، يعد من أهم نقاط القوة التي يمكن استثمارها في دعم استدامة تمويل التعليم الجامعي والأنشطة العلمية.

وإذا تأملنا المؤشرات الاقتصادية والديموغرافية محليا وإقليميا نجد أن الطلب على التعليم الجامعي في تزايد، مما يفرض الحاجة إلى بناء مسارات استراتيجية مستدامة لتنويع مصادر التمويل، وتمكين أهم قطاعات دعم التنمية في سياق اقتصاد ومجتمع المعرفة، وهي التعليم العالي والتعليم والتدريب المهني والبحث العلمي والابتكار، مع تحقيق الشمولية وتضمين جميع شرائح الطلبة بمن فيهم ذوو الإعاقة والموهوبون، وإدراكا للدور الكبير للأوقاف التعليمية في تحقيق هذه الأهداف الاستراتيجية تأسست المؤسسة الوقفية لدعم التعليم العالي منذ عام 2019، وحملت اسم «سراج» لأن العلم والمعرفة بمثابة المصباح الذي يستضاء به في طريق التقدم وبناء الأمم.

إن وجود المؤسسة الوقفية سراج في الخريطة المؤسسية لدوائر العمل المجتمعي يعد خطوة مهمة في توظيف إمكانات الوقف لتحقيق معادلة التنمية، عن طريق تقوية دور الوقف التعليمي والأشكال الأخرى للعطاء مثل الصدقات والهبات، في تنشيط الحراك الاقتصادي والاجتماعي، وبناء القدرات الوطنية، ودعم موارد الدولة وخططها التنموية العليا، وتأصيل الدور التكاملي للإسهام المجتمعي مع الموارد التمويلية القائمة، وذلك في قالب عمل مؤسسي ومُمنهج وفق أفضل الممارسات.

وباستلهام الخبرات العالمية العريقة مثل وقف جامعة هارفارد، وبالعودة إلى الخبرات الإنسانية الأخرى في تراكماتها التاريخية، وأبعادها الثقافية والعلمية والاجتماعية، نتلمس الأهمية الناشئة لوضع الأطر الابتكارية في تنويع الصور والأشكال التنظيمية للصيغ الوقفية، لتتناسب مع متطلبات العصر الحالي في توفير فرص التعليم الجامعي، ودعم الأنشطة البحثية والابتكارية، وتطوير الفكر الوقفي المعاصر وممارسات العمل الخيري، بما يضمن جذب واستقطاب الواقفين والمانحين، وكسب الثقة المجتمعية، وتحقق الريادة والتميز للمؤسسة الوقفية للتعليم «سراج».

إن الغاية الاستراتيجية الكبرى لمؤسسة «سراج» هي تعزيز التكامل بين الجهود الحكومية والمجتمعية لدعم التعليم العالي، والتنمية العلمية الشاملة في سلطنة عمان، وصولا لنهضة معرفية وفكرية مستدامة، وذلك من منطلق الإدراك الواعي بأن مسيرة البناء الوطني تتطلب استثمارا طويل الأمد في بناء الموارد البشرية المؤهلة والقادرة على العمل والإنتاج، فالكفاءات البشرية هي عماد العمل التنموي.

إن إنجاح الوقف التعليمي ودعم أهداف مؤسسة «سراج» يعتمد على التعاون والعمل التشاركي، الذي يفتح آفاقا للابتكار والتميز من جهة، والاستفادة من النماذج الرائدة من جهة أخرى، مع ربطها بالتقاليد والقيم العمانية الأصيلة للعمل الخيري وحب العطاء، والتشجيع على طلب العلم والارتقاء الفكري، وفي الوقت ذاته بناء التعاون الوثيق مع الشركاء من القطاع الحكومي والقطاع الخاص والأوساط الأكاديمية ومؤسسات المجتمع المدني، لأن النجاح ليس ضربا من المستحيل، وليس أيضا ضربة حظ، وإنما هو نتاج العمل المشترك والشغف والتركيز نحو الهدف، وبذلك يمكن كتابة قصة نجاح مؤسسية لها دورها الواضح في التنمية، وملهمة كذلك للمؤسسات الأخرى.