سحابة الغذاء.. مركز للتعلم ومسرع للابتكار

28 فبراير 2023
28 فبراير 2023

في عام 2019 دشنت المفوضة الأوروبية مشروع سحابة الأمن الغذائي والتغذوي، وهي سابقة تاريخية في محور تقليص الفجوات المعرفية المرتبطة بموضوعات الغذاء، قام المشروع على فكرة دمج بيانات أنظمة الإنتاج الغذائي، مع بيانات الصحة العامة، وسلوكيات المستهلك، وكذلك الزراعة المستدامة والاقتصاد الحيوي، وإتاحتها بشكل متكامل للباحثين والمبتكرين وراسمي الخطط وواضعي السياسات ومتخذي القرار، وذلك في محاولة لتخطي التحدي الأكبر الذي كان يواجه النظم الغذائية في دول الاتحاد الأوروبي، والمتمثل في الازدواجية وعدم الاتساق بين أداء مختلف قطاعات الغذاء والتغذية والصحة العامة، وذلك بسبب قلة الوصول للبيانات والمعلومات أو عدم توفر هذه المدخلات في الوقت المناسب، مما يحول دون الوصول لقرارات وسياسات ومعارف وابتكارات تتوافق مع الأهداف التنموية والمجتمعية من جهة، وتستجيب إلى تطلعات استدامة النظم الغذائية، على تعدد محاورها وأبعادها العلمية والاقتصادية والصحية والاجتماعية والثقافية.

قد تتساءلون هنا عن أهمية هذا المشروع الذي يبدو ظاهريا وكأنه مجرد قاعدة سحابية لتخزين البيانات، إلا أن سحابة الغذاء هذه تقوم بدور استراتيجي في عبور ثلاثة فجوات معرفية، وهي تحديد الاحتياجات المعرفية لدعم الابتكار وريادة الأعمال في قطاع الغذاء، وفي ذات الوقت تمكين التعلم المستمر للمهنيين والممارسين؛ ودعم متخذي القرار في وضع أفضل التدخلات والخطط التنظيمية؛ وبناء المرونة وسرعة التكييف في الأوقات الاستثنائية مثل ما حدث أثناء جائحة كورونا، وكذلك الاختلالات في الإمداد الغذائي الناتجة عن الصراعات الإقليمية، ففي عالم المعرفة المتجددة، قد تراجع الفارق الزمني بين إنتاج التقنيات وتطبيقها، وأصبحت ترجمة المعرفة لابتكارات وبناء القدرات الكفؤة من العوامل الرئيسية لتعزيز النظم الإيكولوجية المدفوعة بالابتكار، والداعمة لأنشطة ريادة الأعمال الغذائية، التي تسهم في ضمان القيمة المضافة للإنتاج الغذائي على طول سلاسل القيمة وسلاسل التوريد والإمداد، وتحقيق أهداف النمو الاقتصادي والاجتماعي في هذا القطاع الحيوي، ورفع مساهمتها الفعلية في توفير فرص العمل اللائق للكفاءات العلمية والتقنية.

إذا تأملنا بعمق التطور التاريخي للتصنيع الغذائي سنجد بأن العقود الأربعة الماضية قد شكلت الملامح الحالية لهذا القطاع، الذي مر بالعديد من التغييرات والتحديات في جميع أنحاء العالم، وذلك بسبب التحول الجذري في متطلبات وأذواق المستهلكين، ووعيهم بشأن الأغذية المأمونة، وذات الجودة الحسية العالية، وقد قام الباحثون والعلماء والممارسون بجهود كبيرة في دمج سلسلة من المعارف والتقنيات والخبرات لتطوير ما سُمي فيما بعد «الأغذية الصحية»، مع الأخذ في الاعتبار الخيارات الأخرى من الأغذية المحلية التقليدية، والعادات الغذائية، والفلسفات والمعتقدات، مثل التغذية النباتية والمنتجات العضوية، والأغذية الوظيفية، والمنتجات المدعمة بالمغذيات المفيدة، وقد فرضت هذه التحولات في جانب الطلب ضرورة التطوير المتسارع في المعرفة التقنية والعلمية والتطبيقية، للخروج بابتكارات في أنماط وطرق التصنيع والمعالجة الغذائية، وها قد وصلت الابتكارات في التقنيات الحديثة أوجها مع انتشار تقنيات الكَبْسَلة النانوية، والطباعة ثلاثية الأبعاد، والإنتاج المختبري للحوم، والمعالجة بالضغط العالي والمجال الكهربائي النبضي، والجمع بين التقنيات الجديدة والممارسات التقليدية للأغذية المحلية، مثل المعالجة بالضغط العالي جنبًا إلى جنب مع ضوء الأشعة فوق البنفسجية المطبق على تقليل الملح في المنتجات السمكية التي تستهدف المجتمعات المستهلكة لهذه الأغذية، وذلك دون التأثير على الجودة أو «هيكل الغذاء» المرتبط بالثقافة المحلية والذوق المجتمعي.

وفي الآونة الأخيرة، ومع تعاظم أهمية تضمين التقنيات المصاحبة للثورة الصناعية الرابعة، تبوأت التقنيات الرقمية موقعا رياديا في قطاع التصنيع الغذاء، فظهر جيل الصناعة الذكية القائم على التحكم الرقمي في الإنتاج مع إمكانية التتبع، وتجويد الخدمات اللوجستية، حيث ساهمت هذه التقنيات في تحديد وتخطيط ومراقبة خط الإنتاج والمعالجة، من أجل تحسين جودة وسلامة المنتجات الغذائية، بالإضافة إلى تقليل الفاقد والمهدر على طول سلاسل الإمداد والتوريد، وبنفس القدر ساهمت «العلوم الأومية» جنبًا إلى جنب مع عمليات التصنيع الغذائي المتطورة والتقنيات الرقمية في تحسين نظم إنتاج الغذاء والوقود الحيوي والمواد الحيوية، و»العلوم الأُومية» هي في المجمل تقنيات لها تطبيقات واسعة، وتعمل على الكشف الشامل للجينوميات والبروتينات والمركبات الجزيئية الأخرى في العينات البيولوجية، ويمكن توظيفها في دعم مختبرات الرقابة على سلامة وجودة الغذاء، وكذلك المراكز البحثية والابتكارية التي تستهدف استدامة النظم الغذائية وتكاملها مع القطاعات ذات الصلة.

دعونا نعود إلى مشروع سحابة الغذاء ونستخلص منها أهم الدروس، حيث ألهمت هذه التجربة الأوروبية الناشئة العديد من دول العالم، وفي مقدمتهم الصين التي بادرت بإنشاء سحابة للغذاء، وبناء سبعة مراكز وطنية للحوسبة الفائقة، وطورت الحكومة الصينية في وقت قياسي 11 منصة رقمية لتتبع سلامة وجودة الغذاء، وتم ربطها إلكترونيا مع (31) مركزا بحثيا وإحصائيا، وبالنظر لواقع الحال نجد أن أنظمة الغذاء في الاقتصاديات الآخذة في النمو هي في أمس الحاجة لمثل هذه المبادرات القائمة على البيانات والمعلومات والتقنيات الرقمية المتقدمة، فالحاجة ملحة لتعزيز التوازن الفعال والجمع التكاملي بين القطاعات المعرفية والبحثية والابتكارية من جهة والقطاعات الإنتاجية والصناعية وعالم الأعمال من جهة أخرى، ووجود مصدر موحد لبيانات أنظمة الغذاء يسهم في تكامل عمل هذه الجهات الفاعلة، ويرشد الجهود المؤسسية والقطاعية والوطنية بعيدا عن الازدواجية والهدر في الموارد، كما أنه يحقق الاتساق والمواءمة في الخبرات والأدوار التكميلية، بما يضمن التناغم في الاستجابة لأحدث التطورات والاتجاهات والتحديات المستقبلية.

وبالأخذ في الاعتبار مدى تعقيد وتنوع المعرفة العلمية والتكنولوجية المطلوبة كمدخلات للابتكار الغذائي، فلا بد من الإشارة إلى الدور الرئيسي للتعليم والتعلم المستمر والتدريب وبناء القدرات، وتنمية مهارات المهنيين في المنظومة الشاملة لقطاعات الغذاء، والقطاعات المساندة لها، مما يتطلب استحداث نماذج التدريب التخصصي لنقل المعرفة بكفاءة، مع التركيز على توفير البيانات وتوظيف التقنيات الرقمية، وتحويل محور ريادة الأعمال والابتكار من مجرد أجندة تدريبية إلى خيارات مهنية، مدعومة ببناء كفاءات ومهارات عابرة للتخصصات الأكاديمية، وذلك في سياق استراتيجيات الشراكات ذات التركيز الممنهج لاستشراف الفرص والاتجاهات، وتقديم فهم أفضل للاحتياجات الحالية، واختبار مختلف سيناريوهات معالجة التحديات، مع أهمية الالتفات الواعي للمفهوم الناشئ لريادة الأعمال الرقمية، فالمعرفة والابتكار هما مفتاح المستقبل، من أجل نظام غذائي مستدام وأكثر ديناميكية وابتكارًا.