زلزال أفغانستان .. وآثار تستمر طويلا !!

23 أغسطس 2021
23 أغسطس 2021

د. عبد الحميد الموافي

إذا كانت عقدة فيتنام قد سيطرت على السياسة الأمريكية - خاصة فيما يتصل بالتدخل الأمريكي في الخارج - خلال الربع الأخير من القرن الماضي على الأقل، فإن مغامرة احتلال أفغانستان في أكتوبر عام 2001، ردًا على هجمات نيويورك في 11 سبتمبر 2001 التي أعلن تنظيم القاعدة مسؤوليته عنها، كانت في أحد أبعادها محاولة لدفن عقدة فيتنام، واستعادة المبادرة والعنفوان الأمريكي في القدرة على التحرك والتدخل حسبما تقرر واشنطن، وقد تأكد هذا البعد بغزو العراق عام 2003، بعيدًا عن الأمم المتحدة ومخالفة للشرعية الدولية.

وبغض النظر عن المبررات التي أعلنتها واشنطن في الحالتين، فإن أحداث الأسبوع الماضي، ونعني بها تبخر الجيش الأفغاني الذي بنته الولايات المتحدة وسلحته على مدى عشرين عامًا، وسيطرة حركة طالبان على العاصمة الأفغانية كابول ، ومعظم المحافظات والأراضي الأفغانية ، وما صاحب ذلك من تسريع وتيرة الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وهو ما جعل الخروج الأمريكي والأوروبي من أفغانستان أقرب إلى «الهروب» منه إلى الانسحاب المنظم، هذه الأحداث التي لا تزال تتواصل حتى الآن، جعلت من أفغانستان عقدة ثانية، وإذا كانت عقدة فيتنام قد تراجعت بفعل مرور الزمن، فإن عقدة أفغانستان سوف تستمر لبعض الوقت بالتأكيد، وستترك آثارها المختلفة، ليس فقط بالنسبة للسياسة الأمريكية، وبالنسبة لصورة الولايات المتحدة في العالم، وبالنسبة للتصور الأمريكي عن الذات، ولكنها ستؤثر بالضرورة على مستويات عديدة، منها ما يتصل بحلف شمال الأطلسي ودوره، ورؤية حلفاء الولايات المتحدة لدور واشنطن ولقدراتها ومدى الاعتماد عليها، وكذلك تقييم القوى الدولية المنافسة، خاصة الصين وروسيا الاتحادية لما حدث ومدى تأثيره على الولايات المتحدة في السنوات القادمة، والمدى الذي يمكن التقدم إليه في منافسة واشنطن في جنوب وشرق آسيا وفي مناطق أخرى من العالم ومنها الشرق الأوسط بالطبع، ومن ثم ستمتد الآثار إلى القضية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية المحتلة عام 1967 وحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم وإدارة شؤونهم في دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من يونيو عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.

وليس مصادفة أن ينتبه إلى ذلك عدد من الباحثين والمتخصصين والكتاب الإسرائيليين، الذين رأوا في الانسحاب الأمريكي المتعجل والمضطرب من أفغانستان رسالة سلبية لإسرائيل لابد من أن تتوقف أمامها تل أبيب وتستعد للتعامل معها خلال السنوات القادمة، التي ستشهد بالضرورة ميلًا أمريكيًا أكبر للانسحاب إلى الداخل والحد من الدور الأمريكي الذي اعتاد عليه العالم منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن على الأقل.

ومع الوضع في الاعتبار أن زلزال الانسحاب المتعجل، أو بمعنى أدق «الهروب» من أفغانستان، ستكون له توابع مرتدة عديدة ومتتابعة أيضًا، داخل أفغانستان وعلى المستويين الإقليمي والدولي ذاتي الصلة بها، فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

أولا: إنه بالرغم من أن الإدارة الأمريكية السابقة -إدارة ترامب- قد توصلت إلى اتفاق مع حركة طالبان حول سحب القوات الأمريكية من أفغانستان، وهو ما أكدته إدارة جو بايدن في اتفاقها مع طالبان أيضًا، ومن ثم فإن قرار الانسحاب هو قرار مفروغ منه وليس مفاجئًا، إلا أن الاضطراب الذي اتخذ شكل الهروب السريع من أرض بقت عليها القوات الأمريكية على مدى العشرين عامًا الماضية، ارتبط -على الأرجح- بالتمدد السريع لحركة طالبان وسيطرتها الفعلية على العديد من المحافظات الأفغانية، وعلى نحو كان الرئيس بايدن قد استبعده في تصريحات له شهر يوليو الماضي. ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى حقيقة أن تمدد وسيطرة حركة طالبان على المحافظات الأفغانية في الأسابيع الأخيرة، والذي زاد مع اقتراب انسحاب القوات الأمريكية، لم يحدث نتيجة لتفوق عسكري لطالبان، ولا نتيجة لمعارك عسكرية خاضتها الحركة وهزمت خصومها فيها؛ ولكنه حدث نتيجة انهيار الجيش الأفغاني الذي أنفقت عليه واشنطن مئات المليارات ـ إعدادًا وتدريبًا وتسليحًا، ففجأة تبخرت قوات الجيش الأفغاني التي قدرتها بعض المصادر بما يتجاوز 200 ألف جندي، ومن ثم اعتمدت طالبان على الأطر القبلية والاجتماعية وقادة المجتمع في المحافظات المختلفة للاتفاق على أن تسيطر طالبان دون إراقة دماء، وهي صيغة تترك المجال مفتوحًا أمام طالبان للاستعانة بقادة المحافظات في إدارتها بعد ذلك ولو مؤقتًا، وهي مسألة تحتاجها طالبان بالضرورة.

على الجانب الأمريكي، والأوروبي أيضًا، فإن الرئيس ومسؤولين أمريكيين وأوروبيين آخرين تحدثوا عن خطأ تقديراتهم، وأن انهيار الجيش الأفغاني حدث بأسرع مما كان متوقعًا ومحسوبًا، ومع أن خطأ التقدير وارد ومحتمل بدرجة أو بأخرى، إلا أن هناك فرقًا كبيرًا بين خطأ في التقدير وفشل واضح في الحسابات، خاصة وأن الرئيس الأمريكي لم يستجب لنصائح وتوصيات عدد من قياداته العسكرية بشأن خطة انسحاب أكثر ملاءمة وإن كانت أطول من حيث الوقت. وعلى أية حال فإن واشنطن تسابق الزمن لإجلاء المتعاونين معها من الأفغان والأجانب، وتسعى إلى الانتهاء من ذلك مع حلول الحادي عشر من سبتمبر القادم، وهو ما تحاوله أيضًا الدول الأوروبية الأعضاء في الحلف الأطلنطي التي شاركت بقوات في أفغانستان والتي سارعت بدورها إلى الهروب، وقد حاولت المستشارة الألمانية ميركل الاستعانة بالرئيس الروسي بوتين، خلال زيارتها موسكو الأسبوع الماضي، للمساعدة في إجلاء المتعاونين مع القوات الألمانية في أفغانستان، وستعقد اليوم قمة استثنائية لقادة الدول السبع الصناعية الكبرى يستضيفها رئيس الوزراء البريطاني لبحث الموقف في أفغانستان.

وإذا كان انهيار الحكومة الأفغانية يفرض على واشنطن إعادة النظر في الإبقاء على عناصر عسكرية وخبراء أمريكيين لتدريب القوات الأفغانية؛ لأنه ببساطة ليست هناك قوات أفغانية مسلحة الآن، فإن المشكلة ليست في إجلاء نحو أربعين ألفًا من المتعاونين مع القوات الأمريكية وقوات الناتو، فمعظم هؤلاء سيتم إجلاؤهم بشكل أو بآخر، بعد الانتهاء من سحب القوات العسكرية الأمريكية وقوات الناتو - باستثناء القوات التركية التي لن تنسحب من أفغانستان، التي امتدحت طالبان دورها ودور تركيا في أفغانستان - ولكن المشكلة الأكبر هي في قوات الجيش الأفغاني الهاربة، وفي الأسلحة الأمريكية والأوروبية المتطورة التي تركتها القوات الأمريكية وقوات الناتو خلفها، صحيح أن طالبان استولت على كميات كبيرة من هذه الأسلحة بما فيها مروحيات ثقيلة وعربات مدرعة وأسلحة مختلفة، ولكن الصحيح أن كميات من تلك الأسلحة يمكن أن تنتقل إلى أيدي ميليشيات مناطقية في أفغانستان، وهو ما يساعد في احتمالات اندلاع مواجهات عسكرية بين طالبان وميليشيات معارضة لها. وقد تحدث وزير الخارجية الروسي «لافروف» عن أن وادي بانشير في شمال أفغانستان يشهد تنامي تجمعات معارضة لطالبان وقد يكون مركزًا لتلك الميليشيات، كما أن أحمد مسعود، نجل أمير الحرب السابق أحمد شاه مسعود ناشد واشنطن إمداده بالأسلحة والذخائر لمساعدته على حرب طالبان، وأحمد مسعود هو أحد القادة المعارضين لطالبان والموجودين في وادي بانشير.

ثانيا: إنه إذا كانت واشنطن قد بذلت الكثير من الجهد والوقت والمال على مدى عشرين عامًا من أجل أن تقيم مؤسسات حديثة ومجتمعًا أكثر انفتاحًا في أفغانستان، إلا أن الوضع الراهن، وما آلت إليه الأوضاع في أفغانستان الآن، وما ستقود إليه هذه الأحداث في الفترة القادمة دفع كثيرين من الكتاب والباحثين الأمريكيين والأوروبيين إلى التفتيش عن الأسباب والإشارة إلى عوامل عديدة من أبرزها الاستهانة الأمريكية بالمجتمع الأفغاني، وعدم فهمها لثقافة وقيم ومعتقدات الشرق، والثقة الزائدة بالنفس والقناعة بالدور الأمريكي لتحقيق الديمقراطية، حتى في مجتمعات غير مهيأة لها. ومع أن الرئيس الأمريكي بايدن ومستشاره للأمن القومي تحدثا عن أن بناء أمة في أفغانستان لم يكن من بين الأهداف الأمريكية، إلا أن الوضع الراهن في أفغانستان يعيد إلى الأذهان الوضع الذي أوجدته الولايات المتحدة في العراق الشقيق بعد عام 2003، والوضع الذي أحدثته في ليبيا بعد اغتيال القذافي عام 2011، وهي أوضاع لا تزال تلك المجتمعات تعاني منها حتى الآن اجتماعيًا واقتصاديًا وأمنيًا وسياسيًا كذلك.

ومع أن البعض أشار إلى أن واشنطن ربما تعمدت ترك أفغانستان على هذا الوضع لإيجاد بؤرة عدم استقرار على حدود الصين، خاصة وأن مقاطعة شينجيانج التي تضم أقلية الأويجور المسلمة تعد قريبة من الحدود الأفغانية (تمتد الحدود بين الصين وأفغانستان إلى نحو 75 كيلومترًا) إلا أن سلبيات الوضع الراهن في أفغانستان وعدم اليقين بشأن المستقبل يطرح من السلبيات بالنسبة للولايات المتحدة ما يفوق بكثير أية مكاسب يمكن أن تترتب على فشل الدولة الأفغانية وشغل الصين بها. يضاف إلى ذلك أن الصين أجرت بالفعل اتصالات مع طالبان وأعلنت عزمها على إقامة علاقات طيبة معها، ربما تحسبا لأية تفاعلات ومحاولة لإيجاد حاجز فعال بين أفغانستان والأقلية المسلمة في شينجيانج. على صعيد آخر، فإنه إذا كان الرئيس الأمريكي بايدن قد أشار إلى أن قوات الجيش الأفغاني التي دربتها واشنطن وسلحتها لم يكن لديها إرادة القتال ضد طالبان، ولذلك انهارت تلك القوات سريعا وتبخرت، كما أشار الرئيس الأمريكي السابق ترامب إلى أن القوات الأفغانية كانت تحارب حينما يتم الدفع لها وعندما توقف الدفع توقفت عن القتال، وهي محاولة للإساءة إلى الأفغان، إلا أن الواقع هو أن أمريكا فشلت في جعل القوات الأفغانية تحارب طالبان لحساب واشنطن.

ومع أن هناك بالتأكيد من يعارضون طالبان من بين تلك القوات الأفغانية إلا أن الارتباط بالأمريكيين أو العمل معهم يحول دون قيامهم بذلك بالنظر لقوة المعتقدات الاجتماعية، وحتى لا يوصفوا بالعمل لصالح الأمريكيين. أما المتعاونون مع واشنطن وقوات الناتو، من المترجمين والعاملين في مجالات مختلفة، فإن منظر مطار كابول كان بالغ الدلالة، حيث تعلق البعض بعجلات الطائرات ولقي حتفه بعد إقلاعها. نعم تسعى واشنطن ودول الناتو إلى إجلائهم وحمايتهم وفاء لخدماتهم لها، إلا أن الدرس الواضح هو أن من يبيع وطنه يتحول في النهاية إلى ورقة محروقة فاقدة الاحترام والقيمة سواء في أوطانهم أو لدى من باعوا لهم، وتجربة جيش لبنان الجنوبي في الثمانينات من القرن الماضي، ومن قبلهم من عملوا مع أمريكا في فيتنام، وبعدهم بعض جماعات المعارضة السورية في السنوات الأخيرة، والآن المتعاونون الأفغان، كلها تقول أن المرتزقة تنحصر قيمتهم في حجم ما يدفع لهم، وقد يسعى البعض إلى الاستعانة ببعض هؤلاء الأفغان على مستوى أو آخر، ولكن الدرس لا يتغير فالمرتزق لا يحارب ولا يموت من أجل قضية أو مصلحة الآخر.

وإذا كانت قوات الجيش الأفغاني قد تبخرت الآن، فمن غير المستبعد أن تظهر منها قوات أو تشكيلات أو ميليشيات معارضة لطالبان في بعض المحافظات الأفغانية في الفترة القادمة، وهو ما قد يغرق أفغانستان في مواجهات مسلحة تعيد إلى الأذهان السنوات التي أعقبت انسحاب الاتحاد السوفييتي من أفغانستان والتناحر الشديد بين أمراء الحرب الأفغان.

ثالثا: إنه إذا كان الوضع الداخلي في أفغانستان لن يستقر سريعًا، خاصة وأن طالبان لن تتمكن من السيطرة على كل أفغانستان، إلا إذا دخلت في اتفاقيات تعاون وتنسيق مع قوى أفغانية أخرى، وهو ما تميل إليه طالبان، كما ظهر من بعض تصريحات قادتها، فإن الانسحاب، أو «الهروب» الأمريكي والأوروبي من أفغانستان، على النحو الذي جرى يفتح المجال واسعا أمام تنافس القوى الإقليمية والدولية المعنية بأفغانستان، ليس فقط لأن كل منها له خبرة ما سابقة منذ الغزو السوفييتي لأفغانستان عام 1979، ولكن أيضًا لأن أفغانستان بموقعها الجغرافي والموارد المتوفرة فيها باتت أكثر أهمية لكل جيرانها، طاجيكستان وأوزبكستان وروسيا والصين والهند وباكستان وإيران وحتى تركيا وبالطبع الولايات المتحدة وبريطانيا رغم انسحابهما منها، وكل من هؤلاء له حساباته الخاصة ومصالحه التي يبحث عنها. وفي الوقت الذي تواجه فيه طالبان اختبارًا قاسيًا، فيما يتصل بتشكيل حكومة جديدة في أفغانستان، وفي البحث عن توافق داخلي لم تظهر تباشيره بعد، وعن اعتراف دولي بها يظل مرهونا بشروط عدة، وهو ما ألمح إليه الرئيس بايدن، فإن الفترة القادمة ستكون شديدة الأهمية في تحديد آفاق الوضع في أفغانستان وما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع فيها، خاصة وان توابع الزلزال لن تنتهي سريعًا.