رصد الكفايات السلوكية

29 أكتوبر 2022
29 أكتوبر 2022

تتيح التطورات في المنظور والمنهجية التي يتيحها علم السلوك الكثير من الفرص لإنشاء منظومات مهنية متقدمة وخاصة تلك المنظومات التي تعنى بإدارة التغيير أو في التعامل مع العملاء. حيث تنبه العلوم السلوكية إلى أن المعرفة بالمهارة والتحلي بها لا يعني شيئًا دونما إدراك الطرق المثلى لترجمتها لسلوكيات تتناسب وطبيعة المحيط الثقافي والاجتماعي الذي تمارس فيه أو نوعية منطلقات التفكير والقيم التي يتأسس عليها فريق العمل الذي يتم الاشتغال معه أو الخلفية الثقافية للعملاء الذين يتم خدمتهم. ولذلك أصبحت العلوم السلوكية اليوم محورًا رئيسيًا في إدارة التغيير المؤسسي والتغيير المجتمعي، وإن كانت العلوم الاجتماعية قد ساهمت عبر عقود في تهيئة بيئات عمل جيدة وفي إيجاد نظم أكثر استدراكًا لرغبات العملاء والموظفين فإن هذا الدور اليوم أصبح مرهونًا بالعلوم السلوكية والتي تختلف عن العلوم الاجتماعية في ثلاث اعتبارات: أولها طبيعتها التجريبية واستناد حقائقها على التجربة وتكرارها، وثانيها أن العلوم السلوكية يركز نطاقها على العلاقات الاشتباكية بين الأفكار والمشاعر والسلوكيات والتداخل بين العقلاني وغير العقلاني، وثالثها أن العلوم السلوكية تستطيع أن تكشف عن الطريقة التي يؤثر فيها اتصالنا مع النظام الاجتماعي والطبيعي على قراراتنا وتفاعلاتنا. ومن هنا فإن ما تتيحه العلوم السلوكية يمكن من تطبيق بعض التدخلات التي لا تركز بالضرورة على النظام الهيكلي أو الوحدات الكبرى في صيغة (تشريعات – قرارات – هياكل جديدة – استراتيجيات...) بقدر ما تركز على التدخلات في (أساليب التعامل – اللغة – الرموز – التوقيت – الوسيلة...) وهو ما يعطيها امتيازًا بكونها تركز على تدخلات أقل كلفة وأكبر أثرًا على المؤسسة والمستفيدين.

وفي ضوء ذلك أصبحت الكثير من الحكومات اليوم إلى جانب اهتمامها بتعزيز الكفاءات القيادية والكفاءات الفنية تضيفًا بعدًا ثالثًا بالاهتمام بالكفاءات السلوكية كونها العنصر الذي يضمن مقدرة الفرد على التعامل المدرك والواعي والأمثل مع مكونات النظام الكلي للمؤسسة وعناصره الأخرى من موظفين وقيادات وأنظمة عمل وثقافة. وتعرف مؤسسة HRSG المختصة في حلول الموارد البشرية الكفايات السلوكية كونها: "مجموع السمات والقدرات والدوافع اللازمة لتقديم أداء فعال ، بغض النظر عن وظيفتك في المؤسسة. وتُعرف الكفاءات السلوكية أيضًا بالمهارات الناعمة أو الكفاءات العامة". ومن أمثلها: "التوجه نحو الانجاز وتعزيز التواصل والتنبه للتفاصيل والتركيز على العميل والقدرة على التعلم المستمر ومواكبة الرشاقة المؤسسية والقدرة على التكيف وحل النزاعات وقيادة المواهب..." واتجهت حوكمات ومؤسسات دولية وشركات إلى وضع أطر للكفاءات السلوكية، فقد وضعت حكومة دولة الإمارات العربية المتحدة إطارًا للكفاءات السلوكية في الحكومة الاتحادية ركز على طريقة قياس وتضمين عدة كفاءات منها: (العمل بروح الفريق الواحد – التواصل ومهارات الاتصال – التركيز على خدمة العملاء – التركيز على النتائج – إدارة الموارد بفاعلية – المساءلة – قيادة التغيير – تمكين الموظفين وتطوير قدراتهم – التفكير الاستراتيجي). كما وضعت المنظمة الأوروبية لسلامة الملاحة الجوية هيكلًا للكفاءات السلوكية للعاملين فيها يركز على خمسة عناصر أساسية لتقييم السلوكيات وهي: (التفاعل – الريادة في الأعمال – التفكير – المهنية – الإدارة).

ومما يميز أطر الكفايات السلوكية أنها تستطيع أن تضع مؤشرات دقيقة لقياس الطريقة التي تتحول بها المهارة إلى سلوكيات تفصيلية فعند قياس مهارة الاتصال والتواصل على سبيل المثال تطرح مؤشرات وأسئلة من قبيل:

- هل استطاع القائم بالاتصال ترجمة المعلومات المعقدة لرسائل هادفة؟

- هل استطاع القائم بالاتصال توضيح المعلومات بالأمثلة الملموسة والكفايات والأمثلة البصرية؟

- هل شجعت المفردات التي استخدمها القائم بالاتصال الفريق على طرح أسئلة جريئة والتعبير بشكل حر؟

تلك نماذج مبسطة لطرق القياس التي تقترن بمستويات لتقييم الكفاءة ويمكن أن تندرج تحت كل كفاية سلوكية عشرات الأسئلة / المؤشرات التي تقيسها وبالتالي تستطيع تشخيص الكفاية السلوكية بدقة والأهم أنها ستعمل على تحديد مواطن القوة والضعف في الشخص والتنبيه إليه أو البناء عليها.

في الحالة المحلية تعنى أولوية "حوكمة الجهاز الإداري للدولة والموارد والمشاريع" في رؤية عُمان 2040 وبرامجها الاستراتيجية التنفيذية في خطة التنمية الخمسية العاشرة بوضع أطر واضحة للإجادة الفردية وتنمية رأس المال البشرية ووضع محكات واضحة للتنافس على مستويات القيادة المؤسسية المختلفة. ونعتقد أن تضمين أطر للكفايات السلوكية قد يخدم بناء إطار عام للكفاءات الحكومية تتسق فيه المهارات القيادية مع المهارات الفنية وتغذية المهارات السلوكية ويمكن من تحقيق إدارة التغيير المنظور ويضع مؤشرات دقيقة لرصد وقياس وتتبع وتقييم الكفايات الوطنية. إن المرحلة الراهنة تحتاج إلى القيادة بالرؤية في مستوياتها المختلفة وإلى أن تكون كل مؤسسة قادرة على بناء يقين موظفيها والمتعاملين معها وعملائها بالرؤية التي تنتهجها وأن تترجم تلك الرؤية في صيغة سلوك ملموس وممكن للقياس ويمكن للعلوم السلوكية في تقديرنا أن تساهم بشكل كبير في سياق ذلك. يقول جريج آل توماس في نصائحه للقادة حول أهمية الرؤية: "خذ الوقت الكافي لشرح كيف يمكن تحقيق الرؤية وإظهار مثال شخصي للتفاؤل والثقة. بينما يتجه الآخرون نحو قبول الرؤية، عبر عن ثقتك في مواقفهم ومهاراتهم. اجذبهم وهم يفعلون شيئًا جيدًا وساعدهم على تنمية الثقة بالنفس. كمثال، قم بتوفير مهام أسهل في المراحل الأولى من المشروع لتعزيز الثقة المتزايدة بين زملاء العمل أو المتابعين. كقائد، تذكر الاحتفال بالنجاحات ومعالم الإنجاز نحو الرؤية. هذا يساعد على توليد الحماس والإثارة لأن الجميع يقدر التقدير والمكافآت". تمنحنا من خلال المقاربات والأمثلة العلوم السلوكية أدوات مهمة في تحويل المفاهيم الكبرى كـ "رؤية المؤسسة" و "رسالة المؤسسة" إلى مفاهيم ملموسة ومعاينة تمكن كافة مكونات النظام من الإيمان والقناعة بها والسعي الشعوري وغير الشعوري في سبيل تحقيقها وإنجازها وانتهاجها إلا أن التأسيس لمحكات واضحة للكفايات السلوكية أمر بالغ الأهمية في هذه المسألة لمعرفة الممكن وحاجات التطوير والاكتساب والتنمية.