ديمومة الاستقرار الاجتماعي في حقبة التحولات الدراماتيكية

17 مايو 2023
17 مايو 2023

ينطلق عنوان المقال أعلاه من التسليم بالتأثيرات الاجتماعية الناجمة عن تحولات الحكومة المالية / ضرائب ورسوم / وكذلك الناجمة عن بعض سياساتها وقوانينها، كسياسة التقاعد الإجباري، والحد الأدنى للأجور «325» ريالا، والباحثين عن عمل، أو التداعيات الناجمة عن مرحلة الأزمة النفطية وكورونا، كتسريح العمال.. الخ، وكذلك اشتغالات موازنة الدولة بأعباء المديونية، والتسليم بها هنا مهما كانت مبرراتها سواء بمسوغ الضرورة لمواجهة تلكم الأزمات والتحديات، أو في سياقات إعادة بناء الدولة المعاصرة، أو هما معا، وينطلق كذلك – أي العنوان – من أهم دروس جائحة كورونا، وهو وقف سلاسل التوريد العالمية للغذاء والدواء، حيث وصل الأمر ببعض الدول الكبرى إلى قرصنة الدواء والغذاء في عرض البحر، وكذلك ينطلق من حقبة الغلاء الشاملة، وبالذات الغذاء ومخاطره المستقبلية.

وهنا التساؤل، كيف نضمن بقاء الاستقرار الاجتماعي في المستويات الآمنة سواء وقت الأزمات أو الحياة الاعتيادية؟ بحثنا الإجابة عن التساؤل من منظورين أساسيين، الأول قانون الحماية الاجتماعية الذي تحدثنا عنه في مقال سابق، وقد وصل أمس إلى مرحلة متقدمة بعد توافق مجلس عمان «الدولة والشورى» على كل المواد المختلف عليها بين الجانبين، ويترقبه المجتمع الآن، حيث من المؤمل منه – أي القانون - التخفيف الاجتماعي من ثقل الأعباء المالية الجديدة عليه، ففيه مجموعة حقوق اجتماعية مقابل واجبات ضريبية ومالية ملزمة، وهو قانون سيحدد مضامين العقد الاجتماعي العماني المعاصر بعد التحولات الجوهرية التي طرأت على العقد الاجتماعي السابق والتي تجعله غير صالح للمسير.

الثاني: إقامة جمعيات تعاونية استهلاكية في كل محافظة عمانية، ويكون لها فروع في الولايات التابعة لها، وهناك فعلا حاجة وطنية ملحة لهذه الجمعيات بعد تلكم التحولات الحكومية التي تمس عمق التوازنات الاجتماعية، فهي تمثل أحد عوامل توازن الاستقرار الاجتماعي، إن لم يكن أحد عامليه – أي التوازن - والآخر هو قانون الحماية الاجتماعية المشار إليه سابقا، وسنرى لاحقا كيف يمكن لجمعيات التعاون الاستهلاكية أن تسهم في تحقيق التوازن الاجتماعي في المستويات الآمنة من حيث توفير الغذاء وبقية أساسيات حياة المجتمع، ومساهمتها الفعالة في توفير فرص العمل للباحثين والمتقاعدين، وحتى القطاع الخاص العماني يطالب بها الآن لتعزيز نمو الاقتصاد العماني، وهنا تلتقي مجموعة كبيرة وعريضة من المصالح الاجتماعية والاقتصادية وراء إقامة الجمعيات التعاونية.

وقد أصبحت التعاونيات الاستهلاكية تحتل موقعا بارزا في الاقتصاديات العالمية، فالتقديرات تشير إلى أن حجم اقتصاديات التعاونيات في العالم يبلغ 2.5 تريليون دولار، وهناك نحو مليار عضو تعاوني حول العالم، وتوظف 280 مليون شخص حول العالم، أي 10% من مجموع العاملين في العالم «والجمعيات التعاونية الاستهلاكية ببساطة هي أسواق مركزية متعددة الأقسام، وأسعارها تنافسية، وتعمل في كل ما يتعلق بالمستهلك في مختلف مناحي الحياة الاجتماعية ومتطلباتها، وتعمل على ضمانة توفر السلع الغذائية وغيرها من مواد استهلاكية، كما توفر خدمات الصيانة الصحية والكهربائية والأجهزة المنزلية، وخدمات صيانة السيارات والصيدليات.. الخ، وتوفر فرص عمل للباحثين وكذلك للمتقاعدين بصورة دائمة وآمنة، وترجع بفوائد مالية سنوية للمساهمين الذين هم أصلا مستهلكون، وهم من المواطنين، وهنا يتوفر مصدر دخل آخر لتحسين دخول المواطنين من متقاعدين وأصحاب الدخول الضعيفة أو المحدودة، وكذلك فرص عمل دائمة.

وكل من يطلع على تجربة الجمعيات التعاونية الاستهلاكية في دول مجلس التعاون الخليجي سيدرك مدى حجم حاجة بلادنا لها الآن بالذات بعد تلكم التحولات الدراماتيكية المتسارعة، ففي الكويت هناك « 75 » جمعية تعاونية، تمثل « 70% » من تجارة التجزئة، وقد بدأ العمل بها منذ عام 1962، وفي عام 1971 تم إنشاء اتحاد الجمعيات التعاونية الاستهلاكية ليكون بداية العمل الجماعي للقطاع التعاوني الاستهلاكي، وقيادته الدفاع عن مصالح جمعياته، وتمثيلها في المحافل العربية والدولية، وفي الإمارات هناك « 40 » جمعية تعاونية استهلاكية، و« 95 » ألفا عدد الأعضاء المساهمين و« 13» ألفا عدد الموظفين، و« 46 » مليون درهم مبلغ المساهمين فيها، و7.9 مليار درهم حجم الأنشطة.

والمتأمل في عدد المساهمين الكبير في الجمعيات، وعدد الموظفين فيها، وكذلك مردودها المالي على خزينة الدولة كضرائب ورسوم واستهلاك ماء وكهرباء، وتحريكها للأنشطة التجارية الداخلية، سيطرح التساؤل التالي: لماذا لم تر الجمعيات التعاونية الاستهلاكية النور في سلطنة عمان حتى الآن؟ هناك أصوات قديمة / جديدة تشوش على المسيرة التعاونية، وتلوح بفساد التعاونيات، وتقدمه وكأنه عام، وهو مردود عليها، كونها من المنتفعين من احتكار المحلات والمراكز التجارية لتجارة التجزئة في البلاد، لذلك لا تحبذ أن يكون هناك تنافس متعدد لخدمة المستهلكين، وتعميم الفساد وكأن ظاهرة التعاونيات فيها ظلم، ولو كان كذلك لما حققت ذلك النجاح الإقليمي والعالمي، وإذا كان الحديث عن نماذج هنا أو هناك، فالخلل يكون في التنظيم والحوكمة لا في وجودها ككيانات اقتصادية ذات أبعاد اجتماعية رحيمة بالمواطنين الخ.

ومهما التقت مصالح الكبار أو تعارضت في إقامة التعاونيات الاستهلاكية، فإن مصلحتها الوطنية الاجتماعية وإيراداتها لخزينة الدولة لها دواع وجودية خلال مرحلة المدى المتوسط، أما المدى فوق المتوسط، فقد تكون الاستهدافات أكبر، وبالتالي ينبغي الإسراع في إقامتها سواء بمبادرات فردية، ولا نتوقعها أن تكون سريعة، لأنها – أي المبادرات الفردية- لا تزال بين جنوحها الفرداني النفعي الخالص، ولن تغادرها إلا بمنافسة حقيقية، وبين هواجس نخب مستقلة لا وجود لها الآن، وإنما من الماضي، لذلك نقترح على مؤسسة المحافظ «اللامركزية» في كل محافظة بالتعاون مع مؤسسة الوالي في الولايات التابعة للمحافظة، وفروع غرفة تجارة صناعة عمان في المحافظات؛ صناعة فعل التعاونيات من منظورين أساسيين واستراتيجيين ينبغي أن يحكما إقامة الجمعيات التعاونية الاستهلاكية في مرحلة بدايتها، وهما:

- توفير الأمن الغذائي، والمحافظة على توازن الأسعار للسلع الغذائية الأساسية مهما كانت التحديات؛ ففي التجربة الكويتية مثلا يوضع على كل المواد هامش ربح 10% فقط.

- توفير فرص عمل للباحثين عن عمل وللمتقاعدين، فقد أشرنا مثلا إلى أن عدد الموظفين المباشرين في جمعيات الإمارات يبلغ « 13» ألف موظف، بخلاف غير المباشرين، كما تعرفنا على عددهم عالميا، ولنا أن تصور كيف سيكون عددهم في الجمعيات التعاونية الاستهلاكية في سلطنة عمان، إن عددهم سيكون بعدد الجمعيات، وعددها سيكون بحجم مساحة السلطنة، وسكانها، وهذا الأخير في تصاعد نوعي وكمي بعد انفتاح السلطنة على الاستثمار والإقامة فيها، وبالتالي ستخفف الضغوطات على الحكومة في توفير فرص عمل، ولدينا خبرات تقاعدية متعددة وفي كل المجالات، ومهنية وعالية في النزاهة والأمانة، ويمكن الرهان عليها في نجاح تجربة الجمعيات الجديدة.

وقطاع اقتصاد التعاونيات، فيه حلول متعددة ومستدامة لقضايا وطنية تحتل قمة الأولويات في البلاد، كالباحثين عن عمل، وتحسين دخول المتقاعدين، والأمن الغذائي، فهل تتأخر، ولماذا تتأخر حتى الآن؟ لذلك لابد من تدخل الفعل الحكومي المركزي واللامركزي لتحريك هذا الملف لما فيه من عامل بل عوامل توازن للاستقرار الاجتماعي في حقبة التحولات الديناميكية في حاضرها ومستقبلها، فلا يمكن الاعتماد على المبادرات الفردية، وهذا الشأن لابد أن يستنهض فكر الدولة الاستراتيجي، لأنه من قضايا إعادة بناء الدولة والمجتمع.