دور السياسة المالية والنقدية في معالجة التضخم

30 أكتوبر 2023
30 أكتوبر 2023

يعد التضخّم أكثر مشاكل الاقتصاد الكلي المعاصرة تعقيدا وتؤرق اقتصادات الدول الكبرى خاصة الرأسمالية منها، مثل الولايات المتحدة الأمريكية بسبب إرباكها لتطبيقات السياسة الاقتصادية المتبعة، ورغم اختلاف آراء الاقتصاديين بشأن المفهوم الدقيق للتضخم إلا أن هناك اتفاقا بالإجماع على أن التضخم هو الارتفاع المتزايد والمستمر في المستوى العام للأسعار، وهذا المفهوم يمثل توصيفا وتشخيصا لحالات الارتفاع المفرط في المستوى العام للأسعار، وارتفاع الدخول النقدية أو أي عنصر من عناصر الدخل وارتفاع مستوى التكاليف أو الإنفاق، إضافة إلى الإفراط في إيجاد الأرصدة النقدية، وليس بالضروري أن تتزامن الحالات مع بعضها البعض؛ فمثلا من الممكن أن يحدث ارتفاع المستوى العام للأسعار دون أن يصاحبه ارتفاع في الأرباح، واحتمالية حدوث إفراط في إيجاد الأرصدة النقدية ليس بالضرورة أن يكون الاتجاه العام لأفراد المجتمع أو الاقتصاد عموما نحو ارتفاع مستوى الإنفاق.

وتمثل السياستان المالية والنقدية الأداتين الرئيستين الفاعلتين للسياسة الاقتصادية في معالجة التحديات والمشاكل الاقتصادية مثل التضخم بمختلف أنواعه لاسيما التضخم الركودي عبر التأثير في المتغيرات الاقتصادية الكلية ومواجهة الظروف الخصبة والعوامل المساعدة لمشاكل التضخم وزيادة أعداد الباحثين عن عمل شريطة توفّر بيانات رسمية وإحصاءات دقيقة تساعد على تشخيص مشكلة التضخم وإيجاد الحلول الفاعلة ووضع الخطط الاقتصادية اللازمة لمعالجة المشكلة. وحقيقة ما يربك الاقتصاديين في تحديد المفهوم الدقيق والواضح للتضخم هو استقلالية الظواهر المرتبطة بالتضخم نفسه، فهناك مصطلحات أخرى مثل تضخم الدخل، والتضخم النقدي إضافة إلى تضخّم التكاليف وتضخّم الائتمان المصرفي، وهي الحالة التي تؤدي إلى الإفراط في حجم الائتمان المصرفي الممنوح للقطاع الخاص لتمويل النفقات الاستثمارية أو تمويل عجز الميزانية العامة للدولة في القطاع العام، لكن عموما لا يهتم أفراد المجتمع لكيفية تكوّن التضخم والحالات المرتبطة به بقدر ما يركّزون على أنواعه ومسبباته وأثره على الحياة اليومية الاجتماعية؛ فمثلا كثر الحديث في الفترة الأخيرة عن التضخم المستورد الذي تأثر به الاقتصاد العماني نتيجة ارتفاع تكاليف الشحن والتخزين إبان تفشي جائحة (كوفيد-19) في السنوات الماضية بسبب نقص الإمدادات العالمية من المواد الاستهلاكية خاصة الضرورية منها وما ساعد على استمراره هو طول أمد الأزمة الاقتصادية التي خلفتها الجائحة واستمرار إغلاق الاقتصادات العالمية لفترة طويلة خاصة اقتصادات الدول الكبرى وتوقّف معظم الصناعات والأنشطة التجارية والاقتصادية، وعند عودة الحياة إلى طبيعتها بعد انتهاء جائحة (كوفيد-19) بدأت هذه الاقتصادات بمزاولة أعمالها مما أدى إلى ارتفاع الطلب العالمي على بعض المواد والسلع الخام مثل سلعة النفط التي لا تزال المحرك الرئيس لمعظم الصناعات. وقد كثر الحديث عن التضخم المستورد وهو الشائع بين المحللين الاقتصاديين خلال فترة الأزمات الاقتصادية إلا أن هناك أنواعا أخرى من التضخم لا تقل أهمية عن التضخم المستورد من بينها التضخم الجامع ويحدث عند ارتفاع الأسعار بمعدلات سريعة ومرتفعة خلال فترة زمنية محددة مما يؤدي إلى تدهور العملة وسرعة تداول النقود كما حدث في ألمانيا خلال الفترة من 1921-1923م بعد الحرب العالمية الأولى، إلا أن الدول التي عانى اقتصادها من التضخم المستورد استطاعت أن تسيطر عليه وتحد من مخاطره على الاقتصاد والفرد. ومن النماذج الرائدة في هذه المعالجة هي سلطنة عمان عندما وجّه جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -أعزه الله- بإعفاء بعض السلع من ضريبة القيمة المضافة ووضع حد أعلى لتسعيرة الوقود إضافة إلى دعم المواد الاستهلاكية التي تأثر استيرادها ببعض الأزمات السياسية والاقتصادية، ونظرا لارتفاع كلفة تصنيع بعض المنتجات حول العالم بسبب ارتفاع معدل التضخم عالميا أدى إلى ارتفاع كلفة المواد الخام إثر الارتفاع في أسعار النفط العالمية لمستويات قياسية؛ فإن السياسة النقدية في سلطنة عمان كانت تراعي تطور القوة الشرائية في السوق عبر تثبيت نسبة إعادة الاقتراض للبنوك المحلية رغم رفع البنك الفيدرالي الأمريكي عدة مرات للتعامل مع ارتفاع معدّل التضخم عالميا. ولنكن واقعيين بأن أدوات السياسة المالية والنقدية التي أقرتها سلطنة عمان كان لها دور كبير في احتواء كثير من العقبات الاقتصادية التي تواجه الاقتصاد، وبدأ أثرها يظهر على وضع الاقتصاد العماني الذي يشهد تحسنا ملحوظا من حيث التصنيف الائتماني ونسبة الارتفاع في الإيرادات العامة للدولة. ورغم إقرار وزارة المالية سياسة مالية انكماشية في بداية معالجة الأزمة الاقتصادية التي عمقها تفشي جائحة (كوفيد-19) إلا أنها نجحت في امتصاص التضخم بسبب استجابة الاقتصاد العماني للسياسة المالية وتطوّر سوق العمل.

فالسياسة المالية التوسعية أو الانكماشية رغم دورها المهم في معالجة التضخم خاصة الركودي إلا أن نجاحها مقرون بمدى متابعة تنفيذها ورغبة الدول في معالجة التضخم، وهذا ما تميّزت به سلطنة عمان عبر إقرار خطة مالية تضمّنت مبادرات مالية عاجلة للتعامل مع التضخم الذي ألقى بظلاله على اقتصادات الدول العظمى وتأثرت به بقية الاقتصادات، ورغم أن هناك جدالا بين مؤيدي السياسة المالية ومؤيدي السياسة النقدية -عرض النقد والبطالة والاستثمار وأسعار الفائدة والتجارة والحساب الجاري- بشأن فاعلية كل خطة في معالجة التضخم إلا أن الفيصل الحقيقي في رأيي هو الالتزام بتنفيذ أدوات كل سياسة وفق جدول زمني محكم.