خرق اتفاقية المقر... والمسمار الأخير في نعش القانون الدولي
في استمرار لمسلسل الدعم المطلق للكيان الصهيوني المجرم، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية يوم الجمعة الماضي ٢٩ أغسطس، عن حرمان كبار المسؤولين في السلطة الفلسطينية وعلى رأسهم رئيس دولة فلسطين محمود عباس، من الحصول على تأشيرات دخول البلاد وإلغاء التأشيرات الحالية، لمنعهم من حضور الاجتماع المقبل للجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة المقرر عقده في شهر سبتمبر الحالي بمقر الأمم المتحدة بمدينة نيويورك. وقالت الخارجية الأمريكية في بيانها «إن الوزير ماركو روبيو يرفض ويلغي تأشيرات أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية قبل انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة». وأضافت أن «إدارة ترامب واضحة: من مصلحة أمننا القومي أن نحاسب منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية على عدم الوفاء بالتزاماتهما وتقويض آفاق السلام». وقد اتهمت الخارجية الأمريكية في بيانها الفلسطينيين، بشن حرب قانونية على إسرائيل، وذلك بلجوئهم إلى المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية لمقاضاة الكيان الصهيوني على جرائمه. واستنكرت الإدارة الأمريكية في بيانها أيضا جهود السلطة الفلسطينية للحصول على ما سمته «اعترافًا أحاديًا بدولة فلسطينية افتراضية». ويعد هذا القرار خرقا صريحا لاتفاقية المقر الموقعة في عام ١٩٤٧م بين هيئة الأمم المتحدة وحكومة الولايات المتحدة الأمريكية - وتحديداً البند ١١ من الاتفاقية - وهي الاتفاقية الخاصة بتنظيم وجود المقر الرئيسي لهيئة الأمم المتحدة في نيويورك، والتي تفرض على الولايات المتحدة السماح بدخول وفود الدول الأعضاء، سواء الدول التي تحظى بعضوية كاملة أو الدول التي تحظى بصفة مراقب - كحال دولة الفاتيكان ودولة فلسطين، التي اكتسبت منظمة التحرير الفلسطينية منذ عام ١٩٧٤م صفة مراقب دائم في الأمم المتحدة -، بغض النظر عن العلاقات والمواقف السياسية لهذه الدول ومدى توافقها مع سياسات واشنطن. ويذكرنا هذا الموقف بحادثة مشابهة وقعت في العام ١٩٨٨م، عندما رفضت الولايات المتحدة آنذاك - أثناء رئاسة رونالد ريغان - منح رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الشهيد الرمز ياسر عرفات تأشيرة دخول الولايات المتحدة للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة في نيويورك، وذلك كرد فعل. على قيام الرئيس عرفات بتاريخ ١٥ نوفمبر من العام نفسه ١٩٨٨م بإعلان قيام دولة فلسطين، وأثار القرار وقتها، أزمة دبلوماسية حادة، دفعت الجمعية العامة بتاريخ ٣ ديسمبر إلى اتخاذ خطوة غير مسبوقة، بنقل اجتماعاتها إلى مقرر الأمم المتحدة بمدينة جنيف السويسرية، وتمكين الرئيس ياسر عرفات من إلقاء خطابه أمام أعضاء هيئة الأمم المتحدة هناك، في انتصار ساحق للمجتمع الدولي والقانون الدولي، وبالمقابل، هزيمة ساحقة للولايات المتحدة. حيث أيدت ١٥٤ دولة هذا القرار، وعارضته الولايات المتحدة وإسرائيل «فقط» وامتناع بريطانيا عن التصويت. وبالعودة إلى الأسباب التي حملت الولايات المتحدة إلى منع منح الرئيس محمود عباس وكبار المسؤولين الفلسطينيين تأشيرات دخول الولايات المتحدة للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة المقبلة، لا يختلف اثنان أن الولايات المتحدة عبر تاريخها كانت ولا تزال تنسف كل ما له علاقة بإسرائيل، عندما يطلب منها الكيان الصهيوني ذلك. وقد أمعنت إدارة الرئيس ترامب في القيام بهذا الدور وبشكل مبالغ فيه، إرضاء للكيان الصهيوني المحتل واللوبي الصهيوني المتحكم في مفاصل صنع القرار في الولايات المتحدة. حتى لو كان ذلك على حساب سمعتها كدولة عظمى، تدعي التحضر وتنادي بقيم أخلاقية ليس لها وجود على الإطلاق فيما يخص تعاملها مع القضية الفلسطينية. فمنذ ٧ أكتوبر من العام ٢٠٢٣م وبدء عملية طوفان الأقصى، قدمت الولايات المتحدة للكيان الصهيوني كل عناصر الدعم المادي، والعسكري، والاستخباراتي العلني. حيث تتكون الإدارة الأمريكية - الحالية - من شخصيات يمينية مسيحية متطرفة ترتبط بما يسمى تيار الصهيونية المسيحية، برؤى متشددة تجاه الإسلام وفلسطين وإيران، مع دعم مطلق أعمى لإسرائيل، لدرجة قيامها بخرق كل ما له علاقة بالقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان دعما لتوجهات هذا الكيان الصهيوني، وجرائمه المستمرة تجاه الفلسطينيين العزل في قطاع غزة. والذي أسفرت حتى الآن عن أكثر من ٦٣ ألف شهيد، أغلبهم من النساء والأطفال، وأكثر من ١٦١ ألف جريح، وحصار وتجويع تام لأكثر من مليوني فلسطيني أعزل، مع تدمير تام لكل البنية التحتية، ومظاهر الحياة في قطاع غزة، بالإضافة إلى مشهد غير مسبوق في المجتمع الدولي، وهو قيام الولايات المتحدة بفرض عقوبات على المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، وكذلك عدد من قضاتها، لتجرئهم بإصدار مذكرة اعتقال بحق مجرم الحرب نتنياهو، وتهديد قضاة محكمة العدل الدولية بإجراء مشابه. لقد أوقعت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها في المحظور، بدعمها المطلق لهذا الكيان المجرم، وخرق كل قواعد القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، في سبيل حماية هذا الكيان والتستر على جرائمه العلنية، التي لا تخطئها العين، لتكون بذلك قد وضعت المسمار الأخير في نعش القانون الدولي، بإعادتها هذا العالم إلى قانون الغاب، يأكل فيه القوي الضعيف. وطبعًا، الذي شجع الولايات المتحدة والكيان الصهيوني للوصول إلى هذه المرحلة من ازدراء القانون الدولي، هو التواطؤ الغربي - الحكومات وليس الشعوب -، والغياب التام المريب لأي رد فعل حقيقي للحكومات العربية - باستثناء اليمن -، تجاه ما يحدث من مجازر وإبادة جماعية وحصار وتجويع للفلسطينيين العزل في قطاع غزة. لدرجة أوصلت الشعوب العربية وتحديدًا في الدول العربية النافذة، إلى فقدان الثقة المطلق بحكوماتها، بسبب مواقفها المتخاذلة هذه، ولا يعلم إلا الله كيف ستكون نتائجها على استقرار هذه الدول وهذه المنطقة. خاصةً، بعد إعلان رئيس وزراء الكيان الصهيوني المجرم نتنياهو، أنه في مهمة لتحقيق حلم إسرائيل الكبرى، بمعنى أن الأمر لن ينتهي عند غزة، بل قد تكون غزة هي البداية التي ستتبعها مشاهد وخطوات أخرى، تجاه العديد من الدول العربية، التي تظن أن علاقتها بالولايات المتحدة والغرب وغضها البصر عمّا يحدث في فلسطين سيشفع لها، وحينها لن ينفعها الندم.
خالد بن عمر المرهون متخصص في القانون الدولي والشؤون السياسية
