خرائط القيمة وشعلة بروميثيوس

24 يناير 2023
24 يناير 2023

خلال العقود الأخيرة الماضية دعت المؤسسات المانحة للتمويل البحثي والابتكاري إلى الالتفات للبعد الغائب في الأنشطة المعرفية، وهو أهمية إظهار التأثيرات المجتمعية للبحوث العلمية والابتكارات الممولة، ترافقت هذه الأولويات مع الأصوات التي تنادي بالتركيز على البحوث متعددة التخصصات، التي يُعوّل عليها متخذو القرار والمفكرون في إنتاج معرفة غير نمطية تساهم في توليد النتائج العلمية التي تحقق الرؤية المجتمعية، لكونها الأقرب في الوصول لأوجه التكامل غير المستكشفة بين المجالات المعرفية المختلفة، وقد برهنت التحليلات الإحصائية بوجود الترابط الإيجابي بين تعددية التخصصات وفرص تحقيق الاكتشافات العلمية ذات الأثر الاجتماعي، فإلى أي مدى يمكن أن تقدم هذه التوجهات رؤى مفيدة لتوجيه سياسات العلوم والبحث العلمي الرامية نحو تعزيز الأهمية العلمية والمجتمعية خارج المجتمع العلمي؟

تعكس معدلات الاستشهاد بمخرجات البحوث العلمية من قبل الفئات غير الأكاديمية أن الرؤية المجتمعية المتصورة للنتائج العلمية أصبحت واسعة، ويمكن اعتبارها مؤشرًا إيجابيًا لارتباط الأنشطة العلمية بالتحديات المجتمعية، وقد انعكست هذه التطورات على سياسات التمويل التي بدأت تركز بشكل كبير على تحقيق التوازن الاستراتيجي في دعم الأنشطة المعرفية على مستوى البرامج البحثية الكبرى المدفوعة بالمطالب المؤسسية لتحقيق التميز العلمي والتأثير المجتمعي معًا، وأدت هذه المتطلبات بدورها إلى ظهور التغييرات الجذرية في أنظمة التقييم التي تهدف إلى إجراء تحليل منهجي للتأثيرات المجتمعية لمخرجات البحوث العلمية، ولكن ما هو التعريف الأدق للرؤية العلمية والمجتمعية للمخرجات البحثية وما هي مؤشراتها؟

لا تزال الأوساط العلمية وكذلك دوائر وضع السياسات المنظمة للأنشطة البحثية والابتكارية تبحث عن أدلة التأثير المجتمعي، وذلك بعيدًا عن المؤشرات التقليدية مثل معدلات الاقتباس وعدد الأوراق العلمية في المجالات المعرفية، ومقياس الأثر المعرفي، حتى الآن لا يوجد توافق حقيقي بين الخبراء بشأن المؤشرات البديلة التي تعكس الرؤية المجتمعية، ولكن هناك محورا بالغ الأهمية والذي يتمثل في الأثر التراكمي والذي بإمكانه أن يقود محاولات تحديد الأنشطة العلمية ذات التأثير العالي على الرؤية المجتمعية، فنجد أن استمرارية الأنشطة وتوسعها النوعي والكمي يعكس أهميتها كما هو الحال في رمزية شعلة بروميثيوس، إذ تحكي الأسطورة اليونانية القديمة بأن بروميثيوس نقل المعرفة للبشر وعلمهم الفنون والمهارات، ثم قام بتمرير شعلة من نار جبل الأوليمب، ومع هذه الشعلة انبثقت المعرفة الإنسانية التي قادت التقدم البشرى، وملئت الأرض بالفنون والحضارة والثقافة، واستيحاءً من هذه الرمزية فإن تمرير شعلة إنتاج المعرفة يجب أن تأخذ في الحسبان أمرين؛ الاستمرارية والتراكمية، فهذه الأنشطة تتطلب «حشد المعرفة» بتكامل المجالات المعرفية، من منظور تجريبي ومفاهيمي، وهكذا يتحقق الأثر التراكمي المنشود، لأن العملية البحثية تستمر في رسالتها المعرفية دون التقييد الفعلي بطرح الحلول الآنية أو المستقبلية.

لكن العلاقة بين شعلة بروميثيوس في سياق الأنشطة البحثية المرتبطة بالرؤية المجتمعية ليست وليدة اللحظة الراهنة، إذ يعود التوجه المؤسسي والقطاعي لتشجيع الباحثين والمبتكرين على توسيع نطاق أنشطتهم العلمية خارج تخصصاتهم البؤرية إلى عدة عقود، وذلك سعيًا وراء إعادة إنتاج التفاعل المعرفي الشامل للجوانب العلمية والاجتماعية، بما يتيح تقديم أطروحات فعّالة للتحديات المعقدة، أو تلك التي تعتبر متعددة الأوجه والآثار والسياقات، فظهرت مناهج متباينة تجاه هذا الهدف المشترك، ففي حين يسعى هذا التوجه لتضمين الرؤية المجتمعية ورسم ملامح جديدة للمشهد المعرفي الذي ظل لعقود طويلة يركز على البحوث العلمية البحتة، والكتابة للجماهير الأكاديمية والتقنية، إلا أن الشرائح غير الأكاديمية لا تزال تجتذبها النتائج العلمية المدعومة بتقدير وإشادة المجتمع العلمي والأكاديمي.

وهذا يقودنا للسؤال المحوري: هل المعرفة المتجسدة في العلماء والباحثين أو رأس المال البشري هي أعلى مرتبة من المعرفة الواردة في المصادر المعرفية الرسمية مثل الأوراق العلمية؟ يُعرف رأس المال البشري في سياق العلوم والتكنولوجيا بأنه هو مجموع المعارف والمهارات العلمية والتقنية والاجتماعية التي تتجسد في الباحث، فنجد أنه خلال البحث عن استشارات علمية أو تقنية يكون البحث أولًا عن الأسماء العلمية اللامعة في الحقل المعرفي، قبل الأوراق العلمية ذات الأثر العلمي المرتفع من خلال معدلات الاقتباس، بالقدر نفسه نجد الجمهور غير الأكاديمي ينجذب في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي للأسماء العلمية ذات الصيت الواسع، وهذا ما يفرض على الخبراء مسؤولية الوقوف على هذه النماذج السلوكية في وضع المؤشرات البديلة لقياس التأثير المجتمعي للنتائج البحثة والابتكارية.

فمع تعاقب الثورات العلمية ساهمت الابتكارات التكنولوجية في التأثير بشكل إيجابي على التحديات الاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة لآثارها الواضحة على التقدم العلمي والتقني، وهذا يستوجب رسم خرائط القيمة العامة للنتائج العلمية، من أجل الوقوف على نماذج التأثير المتأتية من هذه الأنشطة البحثية والابتكارية، وبذلك يمكننا أن نفهم بشكل أفضل قيمة المعرفة العلمية وتطبيقاتها، وعلى وجه الخصوص مسارات تعزيز القدرة المستمرة على إنتاج معرفة جديدة، وابتكار استخدامات جديدة لهذه المعرفة اقتصاديًا واجتماعيًا، ومع تعدد منهجيات رسم القيمة العامة للنتائج البحثية والابتكارية إلا القاسم المشترك هو وضع نسق علمي لمتابعة المسارات السببية لنتائج البحوث العلمية، ابتداءً من تنفيذ العملية البحثية والشركاء المساهمين والجهات الداعمة، وانتهاء بالقطاعات الإنتاجية والصناعية والمجتمع العلمي والشرائح المجتمعية، مع هذا التحليل والتتبع الشمولي يمكن تعريف نقاط التأثير الاجتماعي، وتقدير القيمة العامة للمعرفة والابتكار في إحداث هذا التأثير، وتطوير فهم عميق للعلاقات التبادلية ونقاط الالتقاء أو التوازي بين الأنشطة العلمية والنتائج الاجتماعية، فقد استطاعت البشرية منذ عقود تحديد التقييم الاقتصادي للنتائج البحثية، ونجحت الاقتصاديات الكبرى في تتجير المعرفة، ووضع القيمة السوقية للابتكارات التكنولوجية، وبرعت كذلك في رسم خرائط القيمة الاقتصادية للمعرفة، وتوظيف رأس المال البشري العلمي والتقني والإمكانات العلمية.

د. جميلة الهنائية - باحثة في سياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار.