حول الكتابة وعدم استسهالها

22 فبراير 2022
22 فبراير 2022

أمضيت ساعات طويلة أحاول فيها العثور على فكرة جديدة جديرة بالكتابة في هذه الزاوية من جريدة عُمان الرصينة التي أكتب فيها. فقد سبق أن كتبت مئات المقالات بالصحف المصرية مثل: ملحق الأهرام وجريدة أخبار الأدب والمصري اليوم، فضلًا عن جريدة الاتحاد الإماراتية؛ فما الذي يمكن إذن أن أكتبه فضلًا عما كتبت؟ وكيف أكتب من دون أن أكرر ما سبق أن قلت، مع أنني الشخص نفسه الذي يكتب؟! لم أعثر على فكرة جديدة؛ فالأفكار قد تأتيك بحيث تنهمر عليك في نوع من التداعي، وقد تتأبى عليك إلى حين. قلت لنفسي: يمكنني أن أفتش في جريدة عُمان لعلي أجد فكرة هنا أو هناك من الأفكار المطروحة، لعلها تحفز عندي الكتابة في موضوع ما؛ فصادفت مقالًا مدهشًا بالغ العمق وكأنه يصف الحالة نفسها التي أعانيها، وهو مقال الأستاذ عبد الله الشعيلي بعنوان "معضلة الكتابة"، المنشور في العدد الصادر من هذه الجريدة في يوم 15 فبراير الفائت. تكمن أهمية هذا المقال في أن الكاتب يصف مهمة الكتابة باعتبارها همًّا حقيقيًّا، وهو يصف هذه المهمة أو الهَّم من خلال نوع من التصوير الأدبي الذي يتأمل أو يستبطن معناه كما يتبدى في تجربته الشعورية. وهذا يعني بلغة الفلسفة أن الكاتب هنا يمارس نوعًا من "التأمل الانعكاسي" Reflection الذي يحاول فيه الكاتب فهم معنى خبرة الكتابة كما تتجلى في وعيه، تلك كتابة عن الكتابة نفسها.

معضلة هذا النوع من الكتابة النثرية- أعني كتابة المقال- تكمن في الالتزام، والالتزام هنا لا يعني فقط الكتابة في وقت معلوم بانتظام، وإنما يعني أيضًا أن الالتزام نفسه يكون كامنًا في طبيعة كتابة المقال. ومن هنا يمكن أن نفهم مقولة سارتر الشهيرة عن الالتزام في فن الكتابة، فالكاتب ملتزم إزاء ما يقوله للناس بما يكتب، وذلك بخلاف الشاعر الذي يكون متحررًا فيما يقول. ولذلك، فإننا عندما نكتب ينبغي أن نطرح على أنفسنا السؤال الذي طرحه سارتر من قبل: لماذا نكتب؟ ولمن نكتب؟ هذا الالتزام يصبح همًّا أكبر حينما يكتب الكاتب في إطار محاذير سياسية ودينية وأخلاقية، وهو التزام يتحرر منه الشاعر حينما يصوغ كلماته من خلال صور متخيلة، وكذلك حال الفنان بوجه عام (مع التسليم بأن هناك معضلات أخرى تخص الشعر وغيره من الفنون الجميلة، وهو ما يتبدى- على سبيل المثال- في معاناة الشاعر في اختيار كلمة بعينها أو صورة شعرية ما).

كتابة المقال فن قائم بذاته وإن لم يدخل في إطار الفنون الجميلة. وقد سبق أن كتبت مقالًا بعنوان "فن الكتابة"، في الصفحة الأخيرة من العدد الصادر في أبريل 2020 من مجلة "إبداع" المصرية. وقد ذكرت في هذا الصدد أنني تعلمت من الأستاذ الجليل الدكتور زكي نجيب محمود شيئًا عن الالتزام في فن كتابة المقال، حينما قال لي يومًا: لا تكتب جملة في عشر كلمات إذا استطعت أن تكتبها في ثماني كلمات! ومع ذلك، فإنني على قناعة الآن بأن هذه اللغة العلمية الدقيقة الصارمة في صياغة العبارات، ربما لا تكون هي اللغة الوحيدة المشروعة في فن كتابة المقال، فربما تكون اللغة الأدبية التصويرية أبلغ أحيانًا في التعبير عن المعنى المراد قوله. وربما يكون مقال الأستاذ عبد الله الشعيلي مثالًا جيدًا في هذا الصد يمكن أن يتعلم منه كُتَّاب المقال.

ما الذي يمكن أن نستفيد من هذا كله؟ أظن أن الدرس الأساسي الذي يمكن الاستفادة منه هنا هو عدم الاستسهال في الكتابة. مَنْ يستسهل الكتابة هو ذلك الذي يكون قلمه "سيَّال باستمرار" (إن جاز هذا التعبير)؛ ولذلك فإنه لا يعاني الكتابة، ولا يتورع أن "يكتب في المكتوب" أو يطرق المطروق. الكلمات ملقاة على قارعة الطريق، تجدها متاحة في المعاجم والقواميس، وتجدها من فبل في اللغة المتداولة بين الناس في كل عصر وأوان، تمامًا مثلما أن سيل المعلومات حول واقعة أو فكرة ما تجدها متاحة عبر شبكة المعلومات في يسر وسهولة. لكن الكلمات هي مثل الطوب والحجارة يمكن أن تصنع منها قبرًا أو قصرًا. كذلك، فإن الكلمات يمكن أن تصنع منها كلامًا لا يضيف شيئًا في الواقع أو الخيال، أو تصنع منها شعرًا أو مقالًا يبقى في الذاكرة.

• سعيد توفيق كاتب مصري وأستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة في جامعة القاهرة