حمض نووي مؤتلف ..

27 ديسمبر 2022
27 ديسمبر 2022

لدى الكاتب والمستشار التنظيمي سيمون أوليفر سينيك مدرسة فكرية عن القيادة مفادها بأن بوصلة الوصول إلى تحقيق الأهداف ورسالة العمل يعتمد على معرفة الغاية، قدم فلسفته هذه للعالم عبر كتابه الشهير «ابدأ مع لماذا»، شكّلت هذه الفكرة جدلًا في أوساط الفكر الإداري، لأنها لفتت أنظار الجميع إلى مسار إداري مختلف عن التوجهات الفكرية السائدة قبل إطلاق الكتاب في عام 2009، حقق الكتاب نجاحا كبيرا، خصوصًا أنه استهدف قادة العمل المستجدين، وكان يحمل رسائل تحفيزية لكل من يريد أن يلهم الآخرين، أو الذي يبحث عمن يلهمه.

دعونا نطبق نظرية سيمون ونتساءل، هناك مؤسسات عريقة في عالم الأعمال ولا يعرفها الكثيرون! وتظهر شركات ناشئة فتحقق تميزًا وشهرةً في وقت قصير نسبيًا، وتترك بصمات النجاح والريادة والصدارة! أغلب الشركات والمؤسسات الرائدة متنوعة ثقافيًا ومهنيًا وعرقيًا أيضًا، إذن لماذا يجب الالتفات إلى أهمية محور «استيعاب التنوع وتوظيف الاختلاف ودعم الشمول»؟ ولماذا يعتبر هذا المحور هو بمثابة كلمة العبور لصناعة التفوق المؤسسي، والوصول للتنافسية في عالم الأعمال، حيث لا مكان سوى للأكفاء؟

نحن جميعًا مختلفون، ونحن ندرك ذلك تمامًا، ولكن لا يزال موضوع التنوع والاختلافات الثقافية من الموضوعات المركبة في محيط العمل، وتتطلب الكثير من الفهم الواعي والإدراك بأن هذه الاختلافات هي فرص للتطور والتعلم والإنتاج وليست تحديات.

وتزخر الأدبيات الإدارية وكذلك الممارسات العريقة بفلسفة ضع الخطط والاستراتيجيات المعنية بتضمين كافة أشكال التنوع، واستثمارها كإحدى نقاط القوة المؤسسية، إذ يعد التنوع والشمول أكثر من مجرد سياسات أو برامج إعداد الموظفين لتقبل مختلف الأطياف، فأماكن العمل المتنوعة والشاملة تكتسب ثقةً أعمق، والتزامًا أكبر من موظفيها.

التنوع والشمول مفهومان مترابطان من الناحية التوظيفية، لكنهما بعيدان كل البعد عن القابلية للتبادل، التنوع يتعلق بتمثيل الكيان الاجتماعي أو المهني، أما الإدماج فهو يدور حول مدى جودة مساهمات وحضور ووجهات نظر جميع المجموعات المختلفة لذلك النسيج الاجتماعي، ومدى إدماجها في البيئة المؤسسية، وقد تنجح الكثير من المؤسسات وبيئات العمل من تمكين حضور العديد من الثقافات والأعراق والأعمار المختلفة، ولكن عندما تظل عمليات المؤسسة الرئيسية متركزة حول إسهامات مجموعات معينة، فإن هذه البيئات قد تكون متنوعة من حيث المضمون، ولكنها ليست شاملة من حيث الممارسة.

يحدث التنوع على مختلف مستويات وأشكال بيئة العمل، من تنفيذ المشروعات وحتى التوظيف والقيادة، دعونا نبدأ بمستوى تنفيذ المشروعات، نجد أن التنوع الشاسع في مستويات الخبرة والمعرفة داخل فرق العمل التنفيذية قد تُظهر بعض التحديات أحيانا، ومع تتعدد الآراء والتوجهات تقع على قيادة المشروع مسؤولية تعزيز بيئة العمل بالطاقات الإيجابية للاستفادة من هذا التنوع، عن طريق تقبل جميع المداخلات ثم ترجيح المسارات الأكثر كفاءة في تنفيذ أهداف المشروع.

ويأتي دور القيادة الذكية في تشجيع التنوع والشمول منذ بداية تنفيذ المشروع، أي في مرحلة تشكيل فرق العمل، فمن الضروري جدًا بناء فريق متنوع ومتكامل وليس فريقًا من المتفوقين والموظفين اللامعين، فلا ضير من وجودهم إذا صادف وكان ضمن فريق العمل أشخاص متفوقون، ولكن فرق العمل ليست غرفة عمليات بحيث كل ما يدخل فيها يجب أن يكون نقيًا ومعقمًا، لا بأس في التنوع في مستويات الخبرة والمعرفة وأنماط الشخصيات، فالنتائج المنشودة للمشروع هي مسؤولية كل عضو في الفريق قلّ دوره أو كبر، فهم جميعهم موارد لإنجاز المهام واكتساب المعارف التي تؤهلهم لأخذ أدوار أخرى في مشروعات قادمة أو مؤسسات أخرى.

وتشير الممارسات الجيدة للنماذج المؤسسية المتميزة أن فرق العمل تتطلب وجود درجة مناسبة من الاختلاف في الشخصيات وأنماط العمل والخبرات العملية، وبذلك يمكن تقليل الندّية والحساسيات الناشئة عن المنافسة المهنية، ويجب أن يكون اختيار أعضاء فرق العمل موضوعيًا على أساس المقدرة على الإنجاز الفعلي وإحداث الفرق، ومن أجل تشكيل «فريق مؤتلف» يتطلب الأمر الوعي بدور الاختلاف في تحقيق الأهداف والوصول للجودة، القيادة الذكية لا تبحث فقط عن أنماط العمل التي تشابهها، وإنما تشمل أنماطًا مختلفة من التوجهات، وتفتح الباب للتجديد والتطوير وابتكار أنماط مغايرة عن المعتاد والمألوف، هذا التوجه يولّد ثراءً كبيرًا إذ من خلاله يمكن التعرف على نقاط الضعف، واكتشاف الفرص التي طالما كانت غير واضحة ولم تستغل بالقدر الكافي، كما أن الشواهد كثيرة على وجود قياديين ناجحين حققوا نجاحات متميزة في مؤسساتهم، بعد أن جازفوا واتخذوا قرارات مصيرية بشأن اصطياد المواهب ذات كفاءات متنوعة وفي الوقت نفسه مختلفة عن النمط المألوف والسائد في بيئة العمل، فلا حدود للعقل البشري والإبداع الإنساني، ومفتاح النجاح يرتبط بمدى إتاحة الفرصة لإخراج هذا المخزون من القدرات المتباينة القادرة على التفوق والانطلاق في فضاءات البراعة والتميز.

إن تعزيز بيئة العمل يأتي في المقام الأول، وبقية الركائز سوف تأخذ مكانها تلقائيا، فالشمول مطلب أساسي من أجل توظيف التنوع الثقافي والمهني، نحن مختلفون وهذا الاختلاف هو الذي يصنع الائتلاف لأن كل فرد يكمل الآخر ويكون جزءًا من قصة المشروع أو المؤسسة، فبيئات العمل المتنوعة والشاملة هي الأكثر استعدادًا للابتكار الناتج عن تفاعل وتكامل مجموعات متنوعة من العقول والكفاءات والخبرات والمواهب، ويعد هذا الإدماج أحد أهم مفاتيح الاستبقاء على الموارد البشرية المميزة والكفؤة.

وإذا عدنا لطرح أسئلة لماذا، نجد أننا أمام تساؤل آخر وهو لماذا تلعب هذه «الجوانب الانطباعية» للتنوع والشمول أهمية لا تقل عن مؤشرات الإدارة المالية للمشروع أو غيرها من المدخلات والمخرجات؟ ولماذا تكتسب القيمة المعنوية التي ترافق العمل كل هذه الأهمية المصيرية في محور بقاء الفرق والمؤسسات ضمن دائرة الإنتاج والمنافسة أو خروجها من الدائرة؟

جميع التجارب المميزة في عالم الأعمال ركزت على هذه الجزئية، واستثمرت في صناعة توليفة مميزة وذات قيمة في تضمين جميع أشكال التنوع بين موظفيها وشركائها وكذلك المتعاملين معها، وذلك أحد أسباب تفوقها، ولا بد من تحقيق التوازن بين المؤشرات الرقمية الصماء، والانطباعات غير المحسوسة للانتماء لبيئة العمل، لكون الأخيرة هي تعبير لا يحتمل الخطأ عن نجاح المشروع أو المؤسسة من عدمه، فتجربة الأطراف المختلفة تكسب قدرة القيادة على تحويل العمل من مشروع بمؤشرات ومخرجات إلى تجربة ذات قيمة وعمق وأثر، فمحول الشمول يستوجب الكثير من التكتيكات الذكية لاستيعاب مختلف الأطياف في الفريق أو المؤسسة بدون إحداث ارتباك في تشكيلة البيئة المؤسسية القائمة، الذي يعكس الاحتواء الحقيقي والموجه لتعزيز التأقلم الإيجابي ومرونة الوصول للاستقرار العملي في البيئة المؤسسية، من منطلق ثقافة «نحن»، ووحدة الفريق والعمل المشترك وتقاسم نتائج العمل.

ولكن يجب الالتفات إلى أهمية الوعي بأن تضمين أعضاء وثقافات متنوعة للثقافة والبيئة القائمة لا يعتبر تحديًا إداريًا بنفس درجة وشدة العكس، والمقصود هنا تحديات الحفاظ على تماسك بيئة العمل بعد مغادرة أعضاء من الفريق يمثلون التنوع الاجتماعي والثقافي، هذا النوع من الحراك يجب أن يعالج بدقة لأنه قد تكون له تداعيات عميقة، ولذلك يجب الحفاظ على التنوع المكتسب وتوفير الأدوات التي من شأنها رفع درجة استبقاء هذه الحالة، واستدامتها وجذب المتميزين إليها، حتى تتهيأ البيئة الإبداعية والوسط المناسب للإنتاج وتقديم الأفضل، وتأصيل حس الانتماء والولاء لديهم، وكما تشير نظرية الترابط إلى أن قوة السلسلة تكمن في أضعف حلقة فيه، ولذلك يجب عدم الاستهانة بدور أي محور من محاور العمل، فالأهداف الكبيرة تكتمل بوجود جميع الحلقات.

ولذلك فأن مستجدات بيئات العمل في وقتنا الحالي تتطلب تبني قيادة غير نمطية، والتحلي بمواصفات القيادة البصيرة ذات الرؤية الثاقبة والداعمة للتحول، أهم ملامح هذا التوجه هو السعي الجدي نحو التجديد والتضمين والإقدام حينما تنشأ الفرص، وانتهاج روح المبادرة المستمرة واختبار المسارات المختلفة، والابتعاد عن الجمود والموثوقية في تحقيق الأهداف، مع الحسم في اتخاذ القرارات المصيرية والانفتاح للتجديد، نحو قيادة أكثر إلهامًا وتأثيرًا وإنتاجًا.

وهذا يقودنا لأحد أكثر الموضوعات اهتمامًا في واقع عمل المؤسسات في وقتنا هذا، وهو التنوع العمري أو ما يسمى اصطلاحًا بيئات العمل ذات الأجيال المتعددة، وهو يمثل تحديًا مستجدًا لدوائر الموارد البشرية، فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية من القرن الماضي اتسمت المؤسسات بالاستقرار النسبي، وبدأت تتوالى حالات العمل حتى بلوغ سن التقاعد، ومع الحراك الوظيفي بين المؤسسات وبين الدول والأقاليم، ظهرت ما يعرف بتراكم الأجيال الوظيفية، ولأول مرة على الإطلاق نجد أنه توجد مؤسسات تحتوي على موظفين من خمسة أجيال، مما ينتج عنه عدد لا يحصى من أساليب العمل والتواصل والدوافع المهنية والتفضيلات والتصورات والشخصيات.

ومع سرعة التطور التكنولوجي وأتمتة العديد من العمليات الإدارية والفنية فإن هذا التحدي يتفاقم ليصبح أحد الموضوعات التي تستهلك وقت وموازنات المؤسسة في إعادة تأهيل شرائح الموظفين القدامى أو ذوي القدرات الفنية المحدودة عن طريق الدورات التدريبية، كما تتعدد آراء الاستشاريين وخبراء الإدارة بشأن هذه الظاهرة، وهل تندرج فعلًا تحت مظلة التنوع والشمول؟

إن القوى العاملة متعددة الأجيال تمنح مؤسساتها ميزة تنافسية وندرة لا مثيل لها، ووفقًا لدراسة حديثة لراندستاد التي استهدفت رؤساء وقادة العمل، واستطلعت آراء أكثر من أربعمائة موظف وباحث عن عمل في سنغافورة، وأظهرت نتائج الاستطلاع أن 85٪ منهم يعملون بالفعل في فريق متعدد الأجيال، وأنهم قادرون على تبني أفكار وحلول أكثر ابتكارًا لأنهم يعملون في فريق متنوع الأعمار، إذ يتمتع الأفراد الأصغر سنًا الذين نشأوا خلال الثورة الرقمية بالفهم الكبير والانفتاح على تبني التكنولوجيا الجديدة وطرق العمل المرنة، ومن ناحية أخرى، يمكن للمهنيين الناضجين المساهمة من خلال مشاركة معارفهم التخصصية وخبراتهم الصناعية مع جيل الشباب، والمساعدة في توجيه أفكارهم لتحقيق أهداف العمل القائمة على المعرفة والخبرة، في حين أوضح أصحاب العمل أنهم يواجهون تحديات حقيقية في إدارة ديناميكيات القوى العاملة متعددة الأجيال على الرغم من فوائدها العديدة.

ولكن إذا عدنا لمحور التنوع والشمول نجد أن الموضوع أهون من ذلك، فبالرجوع إلى دراسة علمية محكّمة بحثت في ثلاثة جوانب رئيسية متعلقة باختلاف الأجيال وهي ذاتها تمثل هاجس قادة العمل وتضمنت الرضا الوظيفي والالتزام المهني وروح العطاء في العمل، وأجريت الدراسة على أربع مجموعات عمرية بدءًا بالمستجدين وانتهاءً بذوي الخبرات الطويلة، لم تظهر النتائج فروقات معنوية على المستوى الإحصائي لظاهرة اختلاف الأجيال على مستوى الأداء العملي والالتزام بالقيم المهنية الأساسية، لذلك يجب انتهاج الاحتواء لجميع الفئات العمرية وإثراء العمل بهذا التنوع، من أجل رفع الإنتاجية والكفاءة.

لا يأتي النجاح والتفوق المؤسسي بالأقدمية، ولا توجد هناك وصفات سحرية لإيجاد قصص النجاح، ولكنه في الواقع ينبثق من وعي قادة العمل بأهمية صناعة التفوق والتميز، برسم الخط الفاصل بين الإدارة التقليدية وتمكين بيئات عمل متنوعة وشاملة ومنتجة.

__________________

* كاتبة وباحثة في سياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار.