حلوى التشهير بنكهة النصح: دورات مجانية
كثيرا ما تلتبس المفاهيم بين مصطلحات لكل منها مدلوله الخاص، ويصل هذا الالتباس أقصاه مع فوضى العالم الرقمي وصخب شبكات التواصل الاجتماعي، لكن هل يمكن أن يصل الأمر إلى تعطيل المنطق في تلقي واستقبال ما كان أوضح من أن يخفى، وأصعب من أن يتم تمريره عبر أضواء الإعلام غير التقليدي أو عبر قنوات البرمجة العصبية والعقلية؟
مع يوميات العالم الرقمي لا نملك إلا الدهشة حينما نتفاجأ بموكب المشاهير من المؤثرين (بين طرفي التأثير إيجابا أو سلبا) يوميا، نصاب بالقلق أحيانا وبالغثيان أحيانا أخرى حينما يتصل بهالة التأثير كثير من تجّار الوهم ومسوّقيه عبر مصطلحات كثيرة يتقمصونها وفق منافعهم وأهوائهم تماما كما يتقمصون «فلاتر» الصوت والصورة ليصلوا بها إلى غاياتهم ومآربهم، وضمن هالة التأثير الحقيقية أو الوهمية تكبر فقاعة التضليل الجماعي، ولا يمكن للمكرور من التأثير البصري أو السمعي إلا أن يترك أثرا على متلقيه مع استمراره وتأكيده حتى وإن رافقه رفض أو اختلاف قبلها، ومن تلك المنصة توالد كثير من مدّعي الإنسانية ومتلبسي الخير ليعبروا إلى مادياتهم عبر قيم نبيلة وعادات أصيلة ظننا طويلا أنه لا يمكن تجاوزها.
أتأمل ذلك كله وأنا أتابع تغريدة لأحد مؤثري مواقع التواصل الاجتماعي يسوّق فيها لدوراته التدريبية، وليس الخطأ في التسويق هنا أو ترويج البضاعة (إن كانت مزجاة) ولكن العجب هو محتوى التغريدة والأعجب من التغريدة ذاتها ردود الفعل عليها.
تتضمن التغريدة دعوة موجهة من المؤثر (الذي يحمل لقبا علميا بارزا) لأحد الشباب لمنحه عددا من الدورات الاستشارية التربوية المجانية، وحتى لا يظن السوء بهذا المؤثر فإنه لم يذكر اسم الشاب الذي يريد منحه هذه الجائزة، لكنه وضع مقطعا مصورا كاملا له متضمنا حسابه عوضا عن ذلك مفتتحا تغريدته بنداء لمن يستطيع الوصول لهذا الشاب لتبليغه فوزه بالجائزة الثمينة التي تبرع بها سعيا للخير والإصلاح! وبعيدا عن النصح والخير قريبا جدا من التشهير والتحريض والفضائحية يتعجب أي عاقل من ذلك المحتوى خصوصا حين يعود لحساب ذلك المؤثر الذي تجاوز عدد متابعيه ثمانين ألفا، ومع تمرسه في الترويج والتسويق رقميا لم يستطع توصيل نبأ جائزته المهداة لذلك الشاب بشكل نصيحة ورغبة في الإرشاد وتقويم السلوك عن طريق إرسال رسالة خاصة إلى بريده على حسابه الذي نقل منه ذلك المؤثر المقطع الذي أوصل عبره مبادرته العظيمة التي ختمها بعبارة قرآنية لزرع اليقين بأن القصد هو النصح لا الترويج على حساب كل شيء!
والعجب لا يقف هنا، والدهشة لا تنتهي عند هذا الحد إذ الجلي دون كبير عناء أن الأخ الكريم كان يريد ترويجا لدوراته مدّعيا قدرته على تغيير السلوك عبر بضع دورات مدفوعة لكم أيها الجمهور الطيب، مجانية لهذا الشاب (لأنه جسر الوصول إليكم) وإن كان كل ذلك على حساب تشهيره بذلك الشاب مهما كانت أخطاؤه ومهما صدر عنه، بل إن الدهشة كلها تتكثف مع ردود الفعل من التعليقات الداعمة والمؤيدة والمبادرة بمقترحات تتجاوز في تطرفها ما صدر عن المبادر العظيم صاحب الدورات المجانية والقلب الرؤوم؛ لأن الباب الذي أشرعه حامل اللقب العلمي حري بدخول كل أولئك المتحمسين للمشاركة في حفلة التشهير، ومنصة تسويق الذات على حساب الآخر ليتقمصوا جميعا لباس التقوى، وزي النبل متطوعين بأساليب يصل بعضها للعنف سعيا لتقويم سلوك ومنطق ذلك الشاب المتضمن في المقطع، ولا أدري أين من كل أولئك قول الله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وليس من الحكمة -يقينا- فضح الشاب على رؤوس الأشهاد لمجرد الرغبة في التسويق والترويج لنفسك ولعملك ومنتجك بادعاء النصح والإرشاد الذي يحمل في باطنه تشهيرا وتعييرا، ولو أن القصد النصح لكان ذلك سرا كما جاء في بيت أحمد شوقي : «آفة النصح أن يكون جدالا وأذى النصح أن يكون جهارا»
وما فِعْلُه الذي صدر عنه في ذلك بأقل من أن يحصل هو شخصيا على دورات مدفوعة غير مجانية في «التمييز بين المادي والقيمي في العالم الرقمي» ولا هو بأفضل مما فعله مشهور آخر حين أراد أن يرسل رسالة خاصة لزوجته إثر خلاف عائلي فأرسلها عبر حسابه الذي يتابعه الملايين معنونا التغريدة بقوله: أقول لزوجتي، وكأنه لم يجد وسيلة للوصول لزوجته التي تشاركه المسكن غير مكبرات الصوت عبر العالم الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي ليتحول ما هو شخصي إلى جماهيري وما هو سري إلى عامٍّ فضائحي.
الخلاصة أنه من المؤسف أن يبتلع الناس من جمهور مواقع التواصل الاجتماعي طعم الخير والرغبة في النصح، متناسين الأذى الناتج عن فعل التشهير والفضيحة، وإنه لمن الواجب علينا جميعا كمتابعين وقراء ومتأملين تحجيم تلك الظواهر واضعين نصب أعيننا أننا منظومة واحدة مهما اختلفت أجزاؤها وتنوعت معطياتها، ولا بد من إخلاص وصدق دون تهميش أو انتقاص لنصل بنا إلى تناغم وتوافق ننهض به جميعا إلى غد أفضل.
