حلف النّاتو قد يجد صعوبة في الصمود أمام ولاية ثانية لدونالد ترامب

09 مارس 2024
09 مارس 2024

الترجمة عن الفرنسية: حافظ إدوخراز

ما القاسم المشترك بين هذين الأمريكيّين: تشارلز ليندبرغ ودونالد ترامب؟ كان الأول من أفضل الطيّارين في فترة ما بين الحربين العالميتين. أما دونالد ترامب فقد أصبح الآن، أكثر من أي وقت مضى، المعلّم الروحي العظيم للحزب الجمهوري. وعلى الرغم من وجود فارق ثمانين عاما تفصل بين الشّخصين، إلا أنّهما يجسّدان نفس الحساسيّة في السياسة الخارجية الأمريكية: المدرسة الانعزالية. يتعلّق الأمر بتقليدٍ متين وقديم، ينتشر على نطاقٍ واسع في الولايات المتحدة، وشعاره لا يخفى علينا: أمريكا أولًا، ولا داعي للمغامرات في أراضٍ بعيدة.

يستعيد ترامب المشعل، فهو اليوم مصمّم على ترك أوكرانيا لمصيرها، تمامًا كما كان ليندبرغ، الذي نشط في السياسة عام 1940، معارضًا لتدخل الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية ضد هتلر. إذا ما وضعنا جانبًا إمكانية وقوع حادثٍ قانوني، وهو أمر يظلّ واردًا، فإن الرجل صاحب القبّعة الحمراء المختومة بكلمة "MAGA"، وهي اختصار لعبارة "لنجعل أميركا عظيمة مجدّدا" (Make America Great Again)، سوف يحصل على تزكية حزبه وسيكون مرشّح الحزب القديم العظيم من أجل خوض الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في الخامس من نوفمبر هذا العام. وإذا عاد ترامب إلى البيت الأبيض فإنه سوف يبقى ملتزما بخطّه: انكفاءٌ أمريكي على خلفية تعاطفٍ مؤيد لفلاديمير بوتين.

كان ليندبرغ، البطل الأمريكي، أول طيّار ينجح في عبور المحيط الأطلسي منفردًا، وقد طلب منه العديد من المنتخَبين في صفوف الحزب الجمهوري أن يكون بطلهم خلال اقتراع نوفمبر 1940. لم يقع الاختيار عليه في نهاية المطاف، وقد رشّح الحزب جمهوريا آخر، هو ويندل ويلكي، من أجل مواجهة الديمقراطي فرانكلين روزفلت – الذي كان يسعى للفوز بولاية ثالثة، وباعتباره مؤيدًا للتدخل في أوروبا، فقد فاز بسهولة.

لكن ذلك لم يمنع ليندبرغ من السفر عبر أرجاء البلاد من أجل الدفاع عن العقيدة الجمهورية في ذلك الوقت: يجب ألا تتدخّل واشنطن عسكريا في أوروبا. وقال في إحدى خطبه: "لقد توصّلت إلى هذا الاستنتاج، وهو أننا لا نستطيع أن نكسب هذه الحرب [ضد الرايخ الثالث] مكان إنجلترا، مهما يبلغ الدّعم الذي سنقدّمه لها".

وفي عام 1941، أضفى ليندبرغ على خطابه مسحةً من معاداة السامية: "إن المجموعات الثلاث التي تدفع أكثر نحو الحرب هي البريطانيون واليهود وإدارة روزفلت". كان لا بدّ من الانتظار حتى ديسمبر 1941 والهجوم الياباني على الأسطول الأمريكي في المحيط الهادئ (في بيرل هاربور) لكي يتخلّى الحزب القديم العظيم عن هذا الموقف الانعزالي.

إن الحجّة التي قدّمها رئيس مجلس النواب مايك جونسون، بأوامر من ترامب، تذكّرنا بتصريحات ليندبيرغ (باستثناء معاداة السامية). لا يكترث جونسون، وهو أصولي إنجيلي، لمسؤولية كل طرف من الطرفين المتنازعين في اندلاع الصّراع الأوكراني. إنه يعترض على المساعدات المقدّمة لأوكرانيا بحجّة أنه لا يعرف نتيجة الحرب مسبقًا، فالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لا يخبرنا كيف سينتصر! ويحُول النّواب الجمهوريون دون تقديم أي مساعدات جديدة لكييف منذ أربعة أشهر.

لا يخفي ترامب الضّيق الذي يشعر به إزاء حلف النّاتو، وهو اتفاقية دفاع مشترك بين بلدان ضفّتي شمال الأطلسي (لا تنتمي إليه أوكرانيا). فهو يرى أن الحلفاء الأوروبيين يحتالون على الولايات المتحدة بسبب ضعف الميزانيات التي يستثمرونها في جيوشهم: تبلغ حصّة الولايات المتحدة في تمويل الحلف 70% بينما تشكل الحصّة الأوروبية 30%. ويشكّك ترامب في قاعدة التضامن الجماعي في حال الاعتداء على أحد أعضاء الحلف.

يوضّح راسل فوت (Russell Vought)، مفكّر الخط الترامبي: "لدينا تصوّر محدود لمصالحنا [الأمنية] ممّا تأمله إستونيا". فليسمع من في دول البلطيق، وكلهم أعضاء في حلف النّاتو! قد يواجه الحلف صعوبة في الصمود أمام ولاية ثانية لزعيم "MAGA" العظيم.

إن موقف الحزب الجمهوري، الذي كان يحمل عاليًا بكل فخر لواء السلام الأميركي الذي أرسته واشنطن في أعقاب الحرب العالمية الثانية، قد تغيّر مئة وثمانين درجة. لا بدّ أن آخر أبطال الحزب القديم العظيم، رونالد ريغان (1911-2004)، يتقلّب الآن في قبره. ومع ذلك، فترامب كما ليندبيرغ، الداعيين إلى الانعزالية، يشكّلان امتدادًا لتقليدٍ أمريكي متين.

كان الآباء المؤسسون والرؤساء الأوائل للاتحاد جميعهم مقتنعين بالشخصية "الاستثنائية" للولايات المتحدة، التي يعدّون نظامها السياسي معجزة. ولكن في مواجهة العالم الخارجي، ماذا ينبغي فعله إزاء "الاستثناء" الأميركي؟ هل يكتفون بالتألّق في الدّاخل أم يتدخّلون في الخارج من أجل فرض الديمقراطية؟

كان طوماس جيفرسون (1743-1826) يرى بأن بلاده سوف تخدم قضية توسيع نطاق الحرية في العالم بشكل أفضل من خلال كونها قدوةً عوضًا عن تصدير نموذجها. وكان جون كوينسي آدامز (1767-1848) أيضا يشاطر هذا الرأي، ونصح خلفائه في البيت الأبيض قائلا: "لا تذهبوا إلى الخارج بحثًا عن وحوش تقاتلونها".

سوف يظهر التوجّه التدخّلي في وقت لاحق، مع صعود الولايات المتحدة إلى مرتبة القوة العظمى. وقد تبلور هذا التوجّه في ظلّ مآسي القرن العشرين التي دفعت بأمريكا إلى التدخّل في أوروبا مرّتين.

هل من الجائر أن نقول إن الخط الانعزالي هو الذي يهيمن على الرأي العام الأمريكي اليوم؟ وبالنّظر إلى تاريخ الولايات المتحدة، هل من الخطأ أن نلاحظ بأن التحالفات التي عقدتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية ما هي سوى استثناء وقوس طويل، بدل أن تكون تقليدًا راسخا؟ تلك أسئلة مشروعة.

في روايةٍ نشرت عام 2004 بعنوان "المؤامرة ضد أمريكا" (دار غاليمار، 2006)، يتخيّل فيليب روث (1933-2018) انتصار ليندبرغ على روزفلت في اقتراع نوفمبر 1940. وبعد أن أصبح رئيسًا، قام الطيّار بالتوقيع فورًا على ميثاق عدم الاعتداء مع هتلر. أمريكا تترك أوروبا تواجه مصيرها. سيتحدّث روث لاحقا عن هذا العمل ليوضح: "إن الافتراض الكامن في جميع كتبي، والذي يجعل حياتنا في أمريكا محفوفة بالمخاطر كما في أي مكان آخر، هو أن جميع ضماناتنا مؤقّتة، حتى هنا في هذه الديمقراطية التي عمّرت لمئتي عام". بما في ذلك ضمانة التضامن عبر الأطلسي؟

* ألان فراشون صحفي وكاتب عمود في صحيفة لوموند الفرنسية

** عن صحيفة ليموند الفرنسية