حظر إسرائيل للإعلام في غزة لا يمكن الدفاع عنه
افتتاحية نيويورك تايمز
كل الحروب خطيرة بالنسبة للصحفيين، لكن غزة تحتل مكانة خاصة بين النزاعات الحديثة من حيث الخطر الذي يواجه الصحفيين هناك. فمنذ اندلاع الحرب في غزة قُتل نحو 200 صحفي من بين ما يُقدّر بـ63 ألف قتيل ــ الغالبية الساحقة منهم قُتلوا على يد الجيش الإسرائيلي. وقد جعلت تلك الخسائر العامين الماضيين الفترة الأكثر دموية للصحفيين منذ أن بدأت «لجنة حماية الصحفيين»، وهي منظمة غير ربحية، في توثيق الأرقام عام 1992.
تشكل هذه الوفيات طبقة أخرى من المأساة الإنسانية المروعة في غزة. عائلات وأحياء كاملة دُمّرت، وكثير من الصحفيين الشجعان فقدوا حياتهم وهم يحاولون مساعدة العالم على فهم الحرب. والغالبية الساحقة من هؤلاء الصحفيين كانوا فلسطينيين؛ لأن إسرائيل منعت الصحفيين الأجانب من دخول غزة.
إن هذا الحظر المفروض على وسائل الإعلام الخارجية أمر فاضح وغير مجدٍ في الوقت نفسه. فالقادة والمدافعون عن إسرائيل يجادلون كثيرا بأنهم يُحاسَبون في أوقات الحرب بمعايير مختلفة عن غيرهم من الدول، وهم محقون أحيانا في ذلك. غير أن رفض السماح للصحفيين الدوليين بتغطية الحرب على الأرض مثال على عجز الحكومة الإسرائيلية عن الالتزام بالمعيار الذي تتبعه كثير من الحكومات الأخرى، خاصة الديمقراطيات. الولايات المتحدة سمحت للصحفيين بتغطية الحروب في أفغانستان والعراق. وأوكرانيا تسمح للصحفيين بتغطية حربها مع روسيا.
يبدو أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وحكومته يعتقدون أن منع الصحفيين الأجانب من دخول غزة يخدم روايتهم. وفي الداخل الإسرائيلي قد يسهم ذلك في تحقيق الغرض، إذ يمنح بعض الإسرائيليين ذريعة لرفض تغطية معاناة الغزيين باعتبارها دعاية فلسطينية. لكن على المستوى العالمي، فقد فشلت هذه السياسة فشلاً ذريعاً: فبفضل وسائل التواصل الاجتماعي وعمل الصحفيين الفلسطينيين الشجعان، بات الناس يشاهدون عمليات القتل الجماعي، والجوع الحاد، والدمار الشامل في غزة، الأمر الذي أثار موجة غضب. إن منع الإعلام الدولي يوحي بأن قادة إسرائيل يحاولون إخفاء هول الحرب كاملا. ويستحضر هذا محاولات القادة الأمريكيين الفاشلة لإخفاء الحقيقة خلال حرب فيتنام.
يبدو أن هذا الحظر يساهم أيضًا في قسوة الحكومة الإسرائيلية تجاه الصحفيين الذين يغطون الحرب. ففي الغالب، تتخذ الحكومات المنخرطة في الحروب خطوات لتقليل المخاطر التي يتعرض لها الصحفيون أثناء تغطيتهم للنزاع. نعم، تبقى التغطية الميدانية خطيرة، لكن المخططين العسكريين عادةً ما يأخذون في الاعتبار أماكن وجود الصحفيين وكيفية حمايتهم. وقد أخفقت إسرائيل في هذا الجانب. ومن المرجح أنها كانت ستبذل جهدًا أكبر لو أن الصحفيين المعنيين كانوا من الأمريكيين أو من جنسيات أخرى. (وكانت صحيفة نيويورك تايمز من بين أكثر من 100 وسيلة إعلامية وقّعت في فبراير 2024 رسالة تطالب إسرائيل بالالتزام بالقانون الدولي وحماية الصحفيين الفلسطينيين الذين يواصلون عملهم «رغم المخاطر الجسيمة التي تهدد حياتهم»).
قدّم هجوم وقع الأسبوع الماضي مثالًا فظيعًا وكاشفًا. فقد استخدمت إسرائيل أحيانا ما يُعرف بضربات «النقر المزدوج» في غزة؛ حيث يُتبع الهجوم الأول بهجوم ثان بغرض إيقاع أكبر قدر من الخسائر في صفوف «العدو». غير أن الصحفيين وأطقم الإسعاف يكونون غالبًا أول من يصل إلى موقع الضربة. يوم الاثنين قصفت القوات الإسرائيلية مستشفى ناصر في جنوب غزة، وقالت لاحقاً إنها كانت تستهدف ما اعتقدت أنه كاميرا مراقبة تابعة لحماس. وبعد الهجوم الأول مباشرة وقع هجوم ثان. وأسفر الهجومان معا عن مقتل ما لا يقل عن 20 فلسطينيًا، بينهم خمسة صحفيين من وكالة «أسوشييتد برس»، و«رويترز»، و«الجزيرة»، و«ميدل إيست آي». ومعظم الضحايا سقطوا في الضربة الثانية.
وصف نتنياهو ما حدث بأنه «حادث مأساوي»، مؤكدًا أن إسرائيل تقدّر الصحفيين، ومتعهدًا بإجراء تحقيق عسكري. غير أن استخدام إسرائيل لتكتيك «النقر المزدوج» في حرب المدن يعكس استخفافها بحياة المدنيين وبالذين يحاولون كشف حقيقة الحرب.
وردّت إسرائيل على الانتقادات الموجهة بشأن مقتل صحفيي غزة بالقول إن بعضهم عملاء لحماس. صحيح أن بعض وسائل الإعلام مرتبطة بحماس أو بجماعات متطرفة أخرى مثل «الجهاد الإسلامي». لكن من غير المقبول أن تشوّه إسرائيل سمعة العديد من الصحفيين الشجعان الذين يقومون بعمل حيوي في ظروف تكاد تكون مستحيلة - بمن فيهم بعض الصحفيين العاملين لصالح التايمز - عبر الإيحاء بأنهم مقاتلون. ولم تقدّم إسرائيل سوى أدلة قليلة، إن وُجدت، على هذه الادعاءات، بينما تواصل في الوقت نفسه منع دخول الصحفيين الدوليين بشكل متعمد.
قبل أسبوعين، دعت 28 دولة، من بينها بريطانيا وفرنسا وألمانيا، إسرائيل إلى منح وسائل الإعلام وصولًا فوريًا إلى غزة، مؤكدة أن الصحفيين «يلعبون دورًا أساسيًا في تسليط الضوء على الواقع المدمر للحرب». لكن إسرائيل، برفضها مطالب الإعلام المستقل بالدخول، ركزت على ذريعة القلق على سلامتهم. غير أن هذا الادعاء لا يعدو أن يكون عذراً. فصحفيو العالم مستعدون لتغطية الحرب. وقد أعلنت أكثر من 70 مؤسسة إعلامية ومنظمة مجتمع مدني دولية، من بينها نيويورك تايمز، في رسالة أخرى أنهم «يدركون تمامًا المخاطر الجوهرية المرتبطة بالتغطية في مناطق الحروب».
كثيراً ما اشتكت الحكومة الإسرائيلية من أن العالم اعتمد في معلوماته على وزارة الصحة في غزة وغيرها من الوكالات الخاضعة لسيطرة حماس. ولكن ماذا يتوقع نتنياهو ومسؤولوه أن يحدث ما داموا يمنعون الشهود الخارجيين من دخول غزة؟ إذا كانت الحكومة الإسرائيلية تريد للعالم أن يحكم بنفسه، فعليها أن تسمح بدخول وسائل الإعلام.
