حطمنا جهاز اللاسلكي والموقف جيد

15 أكتوبر 2023
15 أكتوبر 2023

يعترف رئيس هيئة الأركان الإسرائيلية، إبان غزو الجيش الإسرائيلي للبنان عام 1982م الجنرال رافائيل إيتان في مذكراته، أن الفدائيين الفلسطينيين قاتلوا في كل مكان بكفاءة وجرأة عالية، ولم يتوقع منهم أن يرفعوا الراية البيضاء أبدا، وأنهم بالفعل لم يفعلوا ذلك وقاتلوا في كل موقع حتى آخر طلقة. الجنرال إيتان نفسه، كان قاب قوسين أو أدنى من الموت في منطقة الدامور، حين أطلق مقاتل فلسطيني قذيفة «ار بي جي» انفجرت على مقربة منه وأودت بنائبه الجنرال «يكوئيتيل ادم» وأصابت العقيد «حاييم سيلا» بجراح بليغة. أدم كان على وشك تسلم منصبه الجديد رئيسا للموساد، لكن الموت كان أسرع، وبنفس السرعة ربما تقضي الهزيمة الميدانية بعد أيام قليلة على أحلام إسرائيل بانتصار موهوم آخر.

أثناء المداولات والوساطات لوقف العدوان على بيروت المحاصرة، آنذاك، احتد النقاش ووصل إلى نقطة حرجة، وهدد وزير الخارجية الأمريكي ألكسندر هيغ ووزير الدفاع كاسبر واينبرغر بأن تنهي الولايات المتحدة المداولات وتعطي الضوء الأخضر للجيش الإسرائيلي لاقتحام المدينة، وحينها رد الأمير بندر بن سلطان بثقة: لا بأس إذن، دعوهم يقتحمون المدينة إن كانوا يستطيعون ذلك!!

تعلم الولايات المتحدة، ويعلم وزيراها للخارجية والدفاع اللذان رأيناهما في المؤتمر الصحفي أمس، يتبجحان ويأذنان بالهجوم على غزة، حجم المذبحة التي ستقع، ومدى الخيبة والهزيمة التي ستلحق بالجيش الإسرائيلي، وأن الرايات البيضاء لن ترفع مطلقا، حتى لو استمر القتال حتى آخر طلقة، أما إن لم يعلموا فجريرتهم أدهى وأكبر.

وبالتأكيد لا تزال السجلات والوثائق محفوظة، وبإمكان الدول الغربية المنحازة لآلة الدمار الإسرائيلية، الرجوع إلى ملابسات حصار قوات جيش الجهاد المقدس بقيادة الشهيد عبد القادر الحسيني للحامية اليهودية في القدس المقدرة بـ 120 ألفا في عام 1947م، وتوسط القنصل الأمريكي لاستسلامها، وإخلائها، وقد وصل اليأس في تلك الظروف حدا جعل الولايات المتحدة ترجع عن تأييدها لقرار التقسيم 181 وتهتز ثقتها بإمكان إقامة دولة يهودية، لكن الحصار الخانق على الثوار الفلسطينيين وقطع المال والسلاح والعتاد عنهم، قلب الموازين، وأدى بعد أشهر قليلة لحدوث النكبة. يقول الفيلسوف «هيغل» ملهاة أن يتكرر الشيء نفسه في التاريخ مرة واحدة، ومأساة أن يتكرر مرتين، فكم مرة تتكرر الأشياء في الموضوع الفلسطيني؟!

استعادتنا لهذه اللحظة، هو فقط من أجل استلهام ما فعله الشهيد القائد عبد القادر الحسيني، الذي غادر اجتماع اللجنة العسكرية للجامعة العربية غاضبا، وهاتفا: «سنحرر القسطل بصدورنا» وأبرق للجنة بجملة واحدة: أحملكم مسؤولية ضياع فلسطين، وتوجه للالتحاق بمقاتليه وصعد للقسطل على تخوم القدس وحررها واستشهد فيها. فالفلسطيني، حين يمتلك السلاح والدعم سيقاتل ويصمد وقد ينتصر، أما إن لم يمتلكه، فسيقاتل ويستشهد، لكنه لن ييأس أو يستسلم أبدا.

الشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى، نستعرض منها بعض المواقف والصور الوجيزة:

خدم مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني في شبابه بالجيش العثماني ودون في مذكراته إن المقاتل الفلسطيني كان مصنفا ضمن قوات النخبة. وتسجل بعض المدونات أن أحد آخر المجموعة التي توقفت عن القتال وبطلب من الأخوة العراقيين، في ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق، كانت الفصيلة الفلسطينية. وبعد نكسة حزيران بعدة أشهر رفض 400 فدائي الانسحاب من منطقة الكرامة في غور الأردن وقرروا القتال حتى النهاية، وهزموا جيش موشي ديان، الذي تعجرف بقدرته على كسرهم كما يكسر البيضة، فانكسرت هيبته وشكيمته وانسحب يجر أذيال الخيبة. وفي الفجر التالي لعملية فندق سافوي الفدائية في تل أبيب في مارس أذار من العام 1975م، وبينما جرافات الجيش الإسرائيلي ترفع ركام المبنى المنهار بعد نسفه، خرج الفدائي الجريح الوحيد الذي بقي على قيد الحياة من بين الأنقاض وأطلق الأعيرة من سلاحه واستشهد. وفي عملية دلال المغربي ومجموعة دير ياسين الفدائية على مشارف تل أبيب تظاهر أحد الفدائيين بالاستسلام، وتقدم رافعا يديه، قبل أن يلتقط سلاحه بسرعة ويواصل الاشتباك ويستشهد.

وحين تلقى ياسر عرفات وهو في غرفة العمليات في بيروت المحاصرة اتصالا باللاسلكي، من شبل صغير، كان آخر من بقي على قيد الحياة من المقاتلين في قلعة الشقيف، حيّاه أبو عمار، وودعه بكل محبة، وأعطاه إذنا بإطلاق آخر قذيفة «ار بي جي» متبقية. ويتذكر ضباط الجيش الإسرائيلي جيدا الشهيد عمر القاسم وكان أسيرا محكوما بالمؤبدات في سجونهم، عندما حدثت عملية فلسطينية في مستوطنة معالوت، وتم أخذ رهائن لمبادلتهم بأسرى، فاقتيد من زنزانته، وقُيد بالسلاسل على مقدمة سيارة عسكرية، وطُلب منه أن يستنجد بالفدائيين بمكبر الصوت، ليوقفوا إطلاق النار كي لا يلقى حتفه أو يصاب بأذى، فصرخ بمكبر الصوت برفاقه: استمروا بإطلاق النار، ولا تأبهوا بحياتي. كما يذكر ضباط المخابرات والجيش الإسرائيلي، البطل صلاح التعمري، قائد معتقل أنصار عندما أجرت الإذاعة الإسرائيلية حديثا معه وهو أسير ومكبل للطلب من قيادة منظمة التحرير أن تتهاون في شروط استبدال 8 جنود إسرائيليين، وقعوا بالأسر، بمعتقلين فلسطينيين وعرب، فصرخ بقيادته عبر الأثير أن تصر على كل مطالبها ولا تتنازل بتاتا.

وإن كان قادة الكيان الصهيوني، لم يفهموا حتى الآن سر صمود غزة ومخيم جنين وأزقة القدس وعنفوان اللد والناصرة، واعتزازهم بعروبتهم، وسحر ابتسامات الفتية والفتيات والأطفال في الانتفاضات والهبات المتكررة، وهم يكبلون بالأغلال ويقتادون إلى المعتقلات الإسرائيلية، أو إن كان هناك من لا زال قلبه يرتجف للتهديدات وقعقعة السلاح وهدير الجيوش الجرارة وحاملات الطائرات العملاقة، فسنقف عند القصة الأخيرة التي عنونا بها هذا المقال وهي قصة حقيقة حدثت وتتكرر إن لم يكن بتفاصيلها فبدلالاتها في كل موقع: في إحدى معارك الثورة الفلسطينية تدحرج الوضع من سيئ إلى أسوأ تدريجياً، وفي كل لحظة اقترب الخطر من الفدائيين أكثر فأكثر، وكانت غرفة القيادة الميدانية تستمر بإرسال البرقيات باللاسلكي إلى قيادتها العامة: التموين نفد والموقف جيد، ثم في رسالة تالية، أدوات الإسعاف نفدت والموقف جيد، ثم في أخرى الذخائر تكاد تنفد والموقف جيد، واستمرت البرقيات تتلاحق، وتؤكد رغم كل الظروف أن الموقف جيد حتى اللحظة التي سقطت غرفة القيادة نفسها وصار لابدّ من تفجير جهاز اللاسلكي كي لا يتم الاستيلاء عليه قبل لفظ الفدائيين أنفاسهم الأخيرة، وكانت آخر برقية أرسلت: «حطمنا جهاز اللاسلكي والموقف جيد».. فهل اتضحت الصورة ؟

محمود التميمي كاتب فلسطيني