حرب باردة جديدة أم حرب عالمية ثالثة؟ كيف نجتاز عصر الارتباك هذا؟

05 مايو 2024
05 مايو 2024

ترجمة: أحمد شافعي -

في عصر الأزمات العديدة الذي نعيشه الآن، نحاول من خلال النظر إلى الماضي أن نحدد وجهاتنا. أترانا في حرب باردة جديدة مثلما يقول روبن نيبلت -المدير السابق لمركز أبحاث السياسة الخارجية تشاتهام هاوس- في كتاب جديد أم أننا ماضون إلى حافة حرب عالمية ثالثة مثلما قال المؤرخ نيل فيرجسن أم أن العالم -مثلما أشرتُ أنا في بعض الأحيان- آخذٌ في مماثلة أوروبا أواخر القرن التاسع عشر ذات الإمبراطوريات والقوى العظمى المتنافسة؟

ثمة طريقة أخرى لمحاولة وضع أوجاعنا في قالب تاريخي يمكن فهمه، وتتمثل هذه الطريقة في أن نسمّي هذه الأوجاع فنقول: إننا في «عصر الـ...» على أن تشير الكلمات التالية إما إلى تماثل أو تناقض صارخ مع عصر أسبق. وهكذا يشير خبير الشؤون الخارجية في (سي إن إن) فريد زكريا في أحدث كتبه إلى أننا نعيش «عصر ثورات» جديدا، قاصدا أنه بوسعنا أن نتعلم شيئا من الثورات الفرنسية والصناعية والأمريكية. أم ترانا في «عصر المستبد» مثلما ذهب جدعون راتشمان معلق الشؤون الخارجية في فايننشال تايمز؟ لا، إنما نحن في «عصر اللاسلام» مصداقا لقول مارك ليونارد مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية نظرا لأن «الاتصال سبب الصراع».

لكن من المؤكد أنه «عصر الذكاء الاصطناعي» بحسب عنوان كتاب شارك في تأليفه أحد أساطين الشؤون الخارجية وهو الراحل هنري كيسنجر. أم هو «عصر الخطر» مثلما قال الكاتب الدولي برونو ماسياس في عدد أخير من نيوستيتسمان [نَشرتْ جريدة عُمان ترجمة لمقاله قبل أيام]؟ ولو أنكم كتبتم «عصر الـ...» في مربع البحث بموقع مجلة «فورين أفيرز» على الإنترنت، لخرجتم بحفنة أخرى من الاقتراحات المنافسة منها عصر اللاأخلاقية، وانعدام أمن الطاقة، والإفلات من العقاب، وأمريكا أولا، وتشتت القوى الكبرى والكارثة المناخية.

أم لعلّ العصر ليس سوى عصر المغالاة، إذ لا يتوقف مديرو دُور نشر الكتب والمنابر الإعلامية عن دفع الكتّاب إلى عناوين ضخمة رنانة مفرطة في الاختزال لتعظيم المبيعات في سوق شديدة الازدحام بالأفكار؟

بعيدًا عن المزاح، من المهم للغاية أن نحاول التعلم من التاريخ؛ لأنه مثلما كتب الناثر الإنجليزي الدقيق (إيفلين وو) في «الرجوع إلى بريدشيد»: «لا شيء في أيدينا حقًا عدا الماضي». والحيلة تتمثل في أن نعرف كيف نقرأه. عليك أولا أن تحدد مزيج القديم والجديد، والمتشابه والمختلف. فالعلاقة بين القوتين الكبريين الحاليتين الوحيدتين، أي الولايات المتحدة والصين، هي بوضوح، وعلى حد قول وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن في زيارة حديثة إلى بكين «من أشد العلاقات في العالم تأثيرا». وكما كان الحال في الحرب الباردة، فإن بين هاتين القوتين الكبريين تنافسًا عالميًّا عديد الأبعاد أيديولوجي التوجه بعيد المدى على المستوى الاستراتيجي.

لكن بينيت يصيب في مستهل كتابه بقوله: إنه «لن تكون الحرب الباردة الجديدة شبيهة بالسابقة في كثير أو قليل». ويفرد اختلافين كبيرين، هما درجة التكامل الاقتصادي بين البلدين التي دفعت بعض الخبراء في الماضي إلى الحديث عن (الـ صيمريكا)، وأن هذا التنافس «أقل كثيرًا في طابعه الثنائي» بسبب وجود الكثير للغاية من القوى العظمى والمتوسطة الأخرى، من قبيل روسيا والهند واليابان وتركيا والسعودية والبرازيل. والنقطة الأولى واضحة الأهمية، لكنها لن تمنع بالضرورة حربا باردة من الالتهاب. فقبل سنوات قليلة من اندلاع الحرب العالمية الأولى نشر الصحفي نورمان آنجل كتابا مهما عنوانه «الوهم العظيم»، ذهب فيه إلى أن درجة اعتماد القوى الغربية الكبرى اقتصاديًّا على بعضها البعض تعني أن نشوب حرب داخلية بينها أمر مستبعد للغاية، وأنها إن نشبت فلا يمكن أن تدوم طويلا. ثم تبين أن نظرية أنجل نفسها هي الوهم العظيم.

يبدو لي فارق بينيت الثاني مقنعًا. ففي بعض الأحيان، توصف هذه القوى الأخرى بدول عدم الانحياز الجديد -وعدم الانحياز مصطلح آخر من زمن الحرب الباردة- لكنها أشد ثراء وقوة بكثير من دول عدم الانحياز في ما قبل عام 1989. ومثلما نرى في حرب أوكرانيا، فإن علاقة روسيا ببلاد من قبيل الصين والهند تُمكّن الاقتصاد الروسي من النجاة من كل ما يرميه به الغرب.

في محاولة أخرى لوضع لافتة كلية على عصر الارتباك الذي نعيشه، طرحتُ أنا وأستاذ العلوم السياسية إيفان كراستيف ومارك ليونارد، صيغة «عالم الانتقاء» حيث تقيم القوة الكبرى والمتوسطة غير الغربية تحالفات معاملات، متزامنة في بعض الأحيان، مع شركاء مختلفين وفي أبعاد مختلفة من أبعاد السلطة. فعلى سبيل المثال، تقيم علاقة اقتصادية كبرى مع الصين وعلاقة أمنية مع الولايات المتحدة. ويتعارض هذا التحليل مع فكرة أكثر جدة هي «محور الاستبدادية» بين الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية. وفي هذا الصدد تُوحي كلمة المحور ذاتها بشيء شبيه بتحالف حربي، فليس فيها فقط صدى من «محور الشر» الذي سكه الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش ولكن فيها أيضا صدى من «المحور» الأصلي، أي محور ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية واليابان الإمبريالية في الحرب العالمية الثانية. «والآن، كما في ثلاثينيات القرن العشرين، ظهر محور استبدادي خطير» حسبما كتب نيل فيرجسن في ديلي ميلي في مطلع العام الحالي.

يتعلق التعلم من الماضي أيضا برؤية التفاعل بين البنى العميقة والعمليات من ناحية، والطوارئ والظروف والإرادة الجماعية والقيادة الفردية من ناحية أخرى.

يعرض لنا عصرنا أمثلة مهمة لكلا نوعي القوة التاريخية. فالطريقة التي من خلالها يؤدي تراكم الأثر غير المقصود للأنشطة الإنسانية إلى تحويل خطير في بيئتنا الطبيعية، من خلال الاحترار العالمي، وتقلص التنوع الحيوي وندرة الموارد، هي من تلك التغيرات الهيكلية العميقة. ومن هنا يأتي توصيف عصرنا بأنه حقبة الأنثروبسين [أي الأثر البشري]. وتسارع التطور التكنولوجي -ومنه الذكاء الاصطناعي- تغير هيكلي آخر. وقد ذهب كيسنجر إلى أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي العسكرية المحتملة التي لا يمكن التنبؤ بها قد تؤدي في نهاية المطاف إلى تدمير حتى الحد الأدنى من الاستقرار الاستراتيجي للردع النووي بين الولايات المتحدة والصين وروسيا. ولكنكم لو شككتم في أن للمصادفات وللخيارات البشرية أهميتها أيضا، فلستم بحاجة إلى أكثر من النظر إلى الماضي القريب قرب فبراير 2022 حينما أدت قيادة فلودومير زيلينسكي الشخصية المُلهِمة وتمكُّن القوات الأوكرانية من منع السيطرة الروسية على مطار هوستوميل إلى تغيير مسار التاريخ.

ويفضي بنا هذا إلى النقطة الأخيرة والأكثر أهمية. فالتنافر التحليلي الذي أوضحتُهُ هو في ذاته من أعراض عيشنا في فترة جديدة من التاريخ الأوروبي والعالمي، حيث الجميع في بحث عن اتجاهات جديدة. ففترة ما بعد الحرب (أي بعد 1945) أعقبتها فترة ما بعد السور، فلم تدم إلا منذ التاسع من نوفمبر 1989 (تاريخ سقوط سور برلين) حتى الرابع والعشرين من فبراير 2022 (تاريخ الغزو الروسي الكامل لأوكرانيا). وفي التاريخ، مثلما في الغرام، للبدايات أهميتها. فما جرى في السنوات الخمس التالية لعام 1945 هو الذي صاغ النظام الدولي على مدار السنوات الأربعين التالية، من بعض الأوجه، من قبيل بنية الأمم المتحدة، حتى يومنا هذا. وإذن فما نفعله الآن على سبيل المثال في تمكين أوكرانيا من الفوز أو تركها للهزيمة سيكون حاسما في تحديد طبيعة الحقبة الجديدة. وأهم دروس التاريخ هو أن صنع التاريخ موكول إلينا.

تيموثي جارتن آش مؤرخ وكاتب صدر أحدث كتبه بعنوان «أوطان: تاريخ شخصي لأوروبا» وحصل أخيرا على جائزة ليونيل جيلبر

عن صحيفة الجاردين البريطانية