حرب الحضارات القادمة

17 يناير 2024
ترجمة: أحمد شافعي
17 يناير 2024

تركز التغطية الإعلامية لأحداث العالم على أزمة واحدة في الوقت الواحد، وكأنما كل أزمة ظاهرة منفردة. لكن أوكرانيا، وحرب إسرائيل وحماس، والهجمات على الشحن في البحر الأحمر، وتهديدات الصين لتايوان، وإغلاق الحوثيين في اليمن للبحر الأحمر، وحتى خطط فنزويلا للاستيلاء على قسم كبير من دولة غيانا الغنية بالنفط، ليست أحداثًا منفصلة، لكنها شديدة الارتباط ببعضها بعضًا.

فكلها يتّبع نمطًا مرسومًا في كتاب صمويل هنتنجتن الصادر سنة 2011 بعنوان «صدام الحضارات وإعادة صنع النظام العالمي» الذي تنبّأ بصعود قوى «ثأرية» رامية إلى استرداد ما تراه مجدًا غابرًا. وسوف يكون أهم هذه الصراعات هو الصراع مع الصين، إذ أن هدفها المعلن هو احتلال مرتبة القوة العالمية العظمى بحلول عام 2050. غير أن صعود الصين بوصفها دولة مراقبة شمولية لا يعدو كونه جزءًا ضمن صعود دول رامية إلى الإطاحة بالنظام الرأسمالي الليبرالي الراسخ منذ أمد بعيد وإحلال نظام أميل إلى الإقطاعية بدلا منه، ليكون العالم في جوهره خاضعا لهيمنة الحكام المطلقين وأتباعهم.

من المؤكد أن كلًا من أولئك ـ ومنهم الصين ـ يعاني من ضعف غير قليل يمكن أن يحد من مطامحه ويترك المجال مفتوحا لرد غربي قوي. غير أن بنية القوة الراهنة في الغرب تفتقر في ما يبدو إلى الإرادة، وتفتقر أكثر إلى الطريقة، اللازمة للرد. فالهجمات على المدنيين الأبرياء، وبخاصة في أوروبا، والهجمات على القواعد العسكرية والسفن التجارية الأمريكية، ناهيكم عن استعمال وسائل التواصل الاجتماعي لتدمير العزيمة الغربية ـ وذلك أوضح ما يكون في تيك توك ـ لا تلقى غير رد متهاون.

سياسات الواقع تغلب الأخلاقية

يجسد الرد على حرب أوكرانيا دينامية تحول القوة. ففي حين أن الغرب ـ وبخاصة اليسار المسالم تقليديا ـ حشد الدولارات وأجَّج المشاعر وراء القضية الأوكرانية، لم تبدِ بقية العالم ـ ومنها القوى الاقتصادية الصاعدة من قبيل فيتنام ـ اهتماما يذكر. ولم تقف أي قوة من خارج الغرب مع الأوكرانيين، باستثناء دول شرق آسيا الديمقراطية، وأبرزها اليابان وكوريا الجنوبية، التي لديها الآن من الأسباب ما يدعوها إلى الظن بأن الغرب سوف يتخلى عنها هي الأخرى في نهاية المطاف.

لقد استفادت بلاد كثيرة من الحرب في ظل أن الموارد الروسية ـ وبخاصة النفط ـ تدفقت إلى اقتصاداتها بأسعار مخفضة. والصين تستعمل نفط روسيا، ونفط دول حليفة من قبيل إيران، في إقامة أروع اقتصاد صناعي في العالم. ومن أجل الالتفاف على العقوبات المفروضة على روسيا تستعمل الصين نفوذها المالي الكبير لإنشاء نظام ائتماني بديل وتقود حركة متنامية للابتعاد عن المعاملات الخاضعة للسيطرة الدولارية وتأسيس معاملات بعملات أخرى من قبيل اليوان.

يبدو أن الحرب زادت كثيرا من البلاد الناشئة رغبة في تحرير أنفسها لا من الطغيان، وإنما من الهيمنة الغربية. ويمكننا أن نرى هذا بوضوح في توسيع مجموعة بريكس المؤلفة من بلاد نامية وتمتد من الصين إلى إيران وفنزويلا والبرازيل وتركيا وأهمها جميعا الهند التي يتزايد تحولها إلى نظام أوتقراطي هندوسي. كما قررت بلدان إفريقية كثيرة ـ شديدة الاعتماد على الصين وبعضها ذات علاقات قديمة بروسيا ـ أن تتجاهل حملة الغرب من أجل أوكرانيا.

كل ذلك يتبع السيناريو المعهود الذي اتبعته القوى الناشئة. إذ يكون الدافع الرئيس هو تحقيق العظمة الوطنية وبخاصة إذ تعكس مجدا استبداديا. وليس هذا تكرارا للحرب الباردة بأيدولوجيتيها المانويتين -أي المتناقضتين بين شر وخير- ولكنه بطبيعته انتهازي أساسا. تسعى الصين إلى السيطرة على التكنولوجيا والتجارة لتحقيق تفوق عالمي في حين تتوق روسيا إلى السيطرة على ممتلكاتها الإمبراطورية السابقة. وتريد فنزويلا أن تضع يدها على النفط ليدعم اقتصادها الاشتراكي المتداعي بينما تسعى بلاد أخرى في أمريكا اللاتينية إلى المزيد من الاستثمارات الصينية.

وجاءت حرب إسرائيل وحماس فزادت من سرعة هذه الاتجاهات. وفي ضوء التحولات الجيوسياسية والاقتصادية، ليس مفاجئا أن تجد إسرائيل نفسها بلا أصدقاء إلى حد كبير، مع تزايد الدعم المشروط من الولايات المتحدة والدعم الأشد ترهلا من أوروبا. ويهاجم الحوثيون الشحن الغربي في البحر الأحمر، برغم تركهم الأسطول التجاري الصيني سالما. وقد يتضح عما قريب هذا النمط التحالفي الجديد الذي نراه في البحر الأحمر، في أدغال شمال شرق أمريكا الجنوبية، وفي مضيق تايوان، وفي كثير من أنحاء بحر الصين الجنوبي.

تخلُّص الغرب

بدلا من مواجهة واقع التحدي العالمي، يرمي الغرب أصوله المعنوية والمادية من النافذة. وشأن ثلاثينيات القرن العشرين، تبدو نخب الغرب السياسية أشد اهتماما بالمناورات الدبلوماسية منها بمواجهة خطر حقيقي ماثل. وليس ببعيد جدا عن الهدف أن نصف وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن، مثلما فعلت مجلة تابلت أخيراـ بأنه «نيفيل تشامبرلين مع إضافة آيباد».

تنمو القوة بقيامها على عمادين توأمين هما القوة الاقتصادية والعسكرية، وقد أهدر الغرب الاثنتين لحساب الصين في الغالب. ومنذ الستينيات، تشهد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تراجع نصيبهما من التصنيع العالمي ذي القيمة المضافة، من نسبة 65% إلى قرابة نصف تلك النسبة اليوم. ويبلغ نصيب الصين من الصادرات المصنعة ما يساوي تقريبا نصيب الولايات المتحدة وألمانيا واليابان مجتمعة في حين أن التصنيع الأمريكي ـ برغم كثير من الجهود ذات التغطية الإعلامية الكبيرة لإعادة الصناعة إلى الوطن ـ انخفض أخيرا إلى أدنى درجة منذ الوباء.

وبدلا من التحفيز إلى زيادة الإنتاج، يبدو القانون المعروف عبثيا باسم (قانون تقليل التضخم) أشبه بـ(قانون إنعاش الصين). وحتى مع استمرار الصين في بناء محطات الفحم والتسبب في غازات الاحتباس الحراري تتجاوز البلاد المتقدمة مجتمعة، فإن «السياسات الخضراء» لدينا ـ وأبرزها التركيز على الألواح الشمسية والسيارات الكهربائية ـ تعزز شبه الاحتكار الصيني لسلسلة توريد بطارية السيارة الكهربائية. وتسيطر الصين على قرابة 80% من تكرير المواد الخام في العالم، و77% من قدرة الخلايا في العالم، و60% من تصنيع المكونات في العالم. وقد تجاوزت شركة (بي واي دي) الصينية أخيرا شركة تيسلا في تصنيع السيارات الكهربائية في العالم.

وتتضاءل أيضا قوة الغرب العسكرية. فالانسحاب الأمريكي المهين من أفغانستان أدى بوضوح إلى اجتراء كل من الصين وروسيا. والجيوش الأوروبية مثيرة للشفقة وتزداد تدهورا. فليس لدى جيش المملكة المتحدة، وهو الأقوى في أوروبا، غير 150 دبابة وليس لدى ألمانيا ذخيرة إلا ليومين من القتال. والولايات المتحدة تواجه مشكلات في الحفاظ على إمدادات حلفائها دون بحث عن بلاد أخرى من قبيل اليابان وكوريا الجنوبية لملء الفراغ.

والأبرز من ذلك أن كثيرا من سلع الولايات المتحدة العسكرية تعتمد حاليا على مكونات من الصين. وبعض الأجهزة المتطورة تعتمد على معادن مهمة تنتجها إلى حد كبير البلاد الناشئة التابعة للصين في أفريقيا وأمريكا اللاتينية. وفي ضوء الضغط القائم بالفعل على مواردنا العسكرية، يتساءل بعض القادة المخضرمين عما لو أن البحرية الأمريكية سوف تستطيع مقاومة توسع الصين المحيطي في بحر الصين أو تحركها في نهاية المطاف للاستيلاء على تايوان. والصين بالفعل أكبر منتج في العالم للسفن البحرية، وهي تلحق بسرعة بتكنولوجيا الغواصات وتكنولوجيا الصواريخ الأمريكيتين.

في مواجهة هذه التحديات، نرى أن الأوليجاركية المالية والتقنية إما تتجاهل صعود الصين أو حتى تعانقه. فتبقى وول ستريت حصنا داعما لمطامح الصين، ما بقيت الصين موردا محتملا لأرباح هائلة. بل لقد أعلن سيتي جروب عن خطط لبدء بنك استثماري مقره الصين هذا العام. وفي قمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ (أبيك) الأخيرة في سان فرانسيسكو التي أزالت مخيمات المشردين لكي لا تؤذي عيني شي جينبنج، حضر أساطين الأعمال حفل عشاء بلغت تكلفة حضوره للفرد أربعين ألف دولار على شرفه الإمبراطوري، ولقي الطاغية تصفيقا من الحاضرين وقوفا.

بالمثل، تعرضت محاولات تحجيم تطبيق تيك توك ـ ذي التأثير الهائل على جيل الشباب ـ للإحباط على أيدي مستثمرين أمريكيين معنيين في المقام الأكبر بحماية استثمارهم الذي يقدر بثمانية مليارات دولار لا بأي تداعيات على الأمن الوطني أو الخضوع لدولة المراقبة الصينية. في الوقت نفسه، أغلب التطبيقات الأمريكية محظورة في الصين.

حاجة الغرب إلى زرع قلب ومخ

لا شيء محتوم في الحرب الحضارية القادمة. فالدول الأوتقراطية تشترك في ميزة تفتقر إليها الديمقراطيات الاسمية وهي تركز الموارد. ومن المؤكد أن المعارضين في الصين وروسيا وإيران وفنزويلا قد أخفقوا في إبطاء منحنى أنظمة الحكم الاستبدادية.

لكن الهدوء لا يضمن النجاح. فالصين وروسيا تواجهان انتشار إحساس هائل بالاغتراب بين شبابهما، وبخاصة في أوساط المتعلمين العاطلين متزايدي العدد في الصين. كما أن البلدين يواجهان انحدارا ديموغرافيا متسارعا يفوق البلاد الأوروبية الأفضل صحة من قبيل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا. في الوقت نفسه تشهد سوق الاكتتاب الأولي في الصين ركودا عميقا أغلبه ناجم عن المناخ المعادي لرواد الأعمال.

في الماضي كان بوسع الصين أن تعتمد على الاستثمار الغربي في توفير الوظائف. لكن كثيرا من الأمريكيين واليابانيين والأوروبيين الآن يتركون الصين بسبب سياساتها التجارية، وازدياد تدخل الدولة، وكذلك الضغوط الداخلية. فقد سحب مورِّدو آبل فقط ستة عشر مليار دولار من الصين. وفي الوقت نفسه، تستثمر اليابان وأوروبا والمملكة المتحدة المزيد في الولايات المتحدة.

وبدلا من استرضاء الصين وروسيا وإيران ربما يجدر بنا النظر في إقامة روابط مع حلفاء من قبيل اليابان وكوريا الجنوبية، فمعارضة الشراء الياباني لشركة (يو إس استيل) أقل منطقية بكثير مما لو كان المشتري مقره الصين. فالقومية المستنيرة لا تعني رهاب الأجانب بلا تمييز.

ويجب أن نسعى أيضا إلى التقويض الممنهج لقبضة الصين المتنامية على العالم النامي.

فرغم العضوية المشتركة في حركة بريكس، لا تريد بلاد من قبيل الهند أو فيتنام أن يصبحا زبونين لشي جينبنج. ويلزمنا أن نوضّح للبلاد النامية أن التحالف مع الغرب يعدها بمستقبل اقتصادي أفضل وبمزيد من الأمن. ومن سبل ذلك فكرة فرض ضريبة الكربون على الواردات الصينية المصنعة اعتمادا على الفحم، ولكن استعمال المنهج نفسه مع حلفاء محتملين من أمثال الهند أو بلاد جنوب شرق آسيا الفقيرة سوف يؤدي إلى نتائج عكسية.

ويجب أن يستغل الغرب أيضا حضور المهاجرين في بلاده.

فكثير من هذه البلاد تعتمد على تحويلات المهاجرين الاقتصاديين التي تزايدت من مئتي مليار إلى ستمئة مليار دولار منذ عام 2010، مسهمة إسهاما رهيبا في اقتصاداتها. والولايات المتحدة حتى الآن أكبر مورد للتحويلات في العالم.

وللصراع في الشرق الأوسط أيضا بعض الفوارق الدقيقة. فاللاعب الرئيس الداعم لحماس، أي إيران، يخشى بعمق الدول ذات الأغلبية السنية من قبيل المملكة العربية السعودية ومصر، والتهديد من طهران لهذه البلاد أكبر من التهديد لتل أبيب. في الوقت نفسه، يجب أن نوضح أن الصين وروسيا دولتان علمانيتان تضطهدان الأقليات المسلمة فيهما، وهو واقع محرج لحلفاء مفترضين.

غير أن هذه المزايا جميعا سوف تتبدد إذا لم يعد الغرب، وخاصة الشباب الأمريكيين، مؤمنا بالديمقراطية الليبرالية. فمؤسساتنا النخبوية ـ وبخاصة في الوسط الأكاديمي ووسائل الإعلام الرئيسية ـ تزداد رفضا لشرعية مؤسساتنا الجوهرية. لقد تم تلقين العديد من الشباب في أوروبا وأمريكا، وفي بعض الأحيان منذ المدارس الابتدائية، لاتباع السردية المناهض للغرب بوصفه «القاهر» و«الاستعماري». وقد تبين لتقرير صادر حديث عن مركز (مستقبل الديمقراطية) في جامعة كمبريدج أن دعم الديمقراطية في الغرب يتراجع بين من يبلغون من العمر ما بين 18 و34 عاما.

وقد استشرى هذا العفن إلى مؤسستي الدفاع والمخابرات الغربيتين. فهوس محاربة التغير المناخي والقومية البيضاء الذي استولى على الناتو والجيش الأمريكي هو بمثابة جنون مطلق في وقت تتزايد فيه المخاوف المرتبطة بالقدرة القتالية الحربية، بدءا بنوعية القوات وحتى القاعدة الصناعية المتدهورة التي تدعمها.

في النهاية يحتاج الغرب إلى أن يفيق من سباته ويبدأ في بناء قدراته من جديد. وبدلا من المضي صوب حرب أهلية جديدة على أسس أيديولوجية، يلزمنا إحساس جديد بالهدف المدني الذي يتضمن التركيز على التدريب المهاري وتحسين البنية الأساسية وتوسيع التكنولوجيا الصلبة وبخاصة في مجال الفضاء. ويلزمنا أيضا أن نتبني ـ لا أن نعوق ـ وضع الولايات المتحدة بوصفها أضخم مصدِّر للغاز فضل عن كونها مصدِّرًا أساسيا للنفط في العالم. ففي هذا إضعاف أكيد لنفوذ تسعى إيران وفنزويلا وروسيا إلى استغلاله، وبخاصة في أوروبا وجنوب آسيا وأمريكا الجنوبية.

وليست هذه بالحالة الميؤوس منها تماما. فثمة دعم متزايد، في اليمين واليسار، لما يسميه المحلل آهارون رين بـ«شعبوية البناء» التي قد تُرى في الشعبوية الاقتصادية للنواب جيه دي فانس وجوش هاولي، وكذلك الديمقراطي جون فيترمان. لكن تحدي الصين وروسيا وحلفائهما لا يمكن أن يقابل بندوات تمجد لاهوت الأسواق الحرة أكثر من السياسات التي تركز على «العدالة الاجتماعية» و»مناهضة العنصرية» والسيولة الجندرية. يجب أن يكون الهدف المشترك هو إمداد عوام الناس في الغرب، مهما تكن أعراقهم، بسبل خلق الثروة مع إمداد جيشنا بالقدرة اللازمة لحراسة مصالح هذه الثروة.

جويل كوتكين زميل واشنطن في مركز معهد كليرمونت لطريقة الحياة الأمريكية، والزميل الرئاسي في المستقبل الحضري بجامعة تشابمان، والمدير التنفيذي لمعهد الإصلاح الحضري. صدر كتابه الأحدث بعنوان (مجيء الإقطاع الجديد) عن دار إنكونتر

عن ذي أمريكان مايند