حراك الجامعات الأمريكية

05 مايو 2024
05 مايو 2024

الحقيقة الماثلة أمامنا الآن، هي أنّ غزة غيّرت نظرة العالم تجاه القضية الفلسطينية، وفرضت واقعًا جديدًا لم نعهده من قبل، وأظهرت زيف الادعاءات الأمريكية التي تريد أن تفرض الديمقراطية في العالم كما ادّعت ذلك في العراق وأفغانستان، فإذا هي تفعل ما لم تفعله دول العالم الثالث، إذ اعتقلت شرطتُها - حسب وكالة «أ.ب» للأنباء - ما لا يقل عن ألفيْ شخص، وامتدت الاعتقالات إلى أكثر من 25 حرمًا جامعيًّا في 30 ولاية منذ الثامن عشر من أبريل الماضي، ممن تضامنوا مع مأساة الفلسطينيين، وكانت الذروة يوم الثلاثاء، الثلاثين من أبريل 2024، عندما اقتحمت شرطة مدينة نيويورك حرم جامعة كولومبيا، واعتقلت عشرات الطلاب المتضامنين مع فلسطين؛ ذلك التضامن الذي طالب بوقف الحرب على غزة، والمقاطعة الاقتصادية والأكاديمية للكيان الإسرائيلي، والذي شمل عددًا من الجامعات الأمريكية. ووفقا لإحصاء نشرته «أسوشيتد برس» فقد اعتُقل ما لا يقل عن 200 شخص في جامعة كاليفورنيا لوس أنجلوس يوم الخميس الماضي، وحتى لحظة إرسال المقال للنشر فإنّ أرقام الاعتقالات في ازدياد.

تعاملت الشرطة الأمريكية مع المحتجين بعنف، عندما أَجْلَتْ المتظاهرين والصحفيين من محيط قاعة هاميلتون في جامعة كولومبيا، التي أطلق عليها المحتجون «قاعة هند»، تكريمًا لطفلة فلسطينية في السادسة من عُمرها استُشهدتْ في الحرب الإسرائيلية على غزة، واستغرقت العملية حسب متحدث باسم الشرطة ثلاث ساعات، فيما كان الطلاب يهتفون: «فلسطين حرة.. حرة» و «عار..عار»، مطالبين بالإفراج عن زملائهم المعتقلين.

إنّ العنف الذي لجأت إليه الشرطة الأمريكية في فض اعتصامات المتضامين مع غزة، جعل فولكر تورك مفوض حقوق الإنسان في الأمم المتحدة يعلن عن انزعاجه إزاء الإجراءات القاسية التي اتخذتها قوات الأمن الأمريكية، وأوضح أنّ «الممارسات المشروعة لحرية التعبير لا يمكن الخلط بينها وبين التحريض على العنف والكراهية»، وهذه في حدّ ذاتها نغمة جديدة لم نعهدها من قبل.

وإذا كان الأمر في جامعة كولومبيا قد انتهى نهاية مأساوية، فإنّ ما حصل في جامعة براون الأمريكية مختلف تمامًا؛ ففي أول اتفاق من نوعه، أعلنت الجامعة أنها توصلت إلى اتفاق مع مجموعة من طلابها مناهِضة للحرب في غزة، ينص على أن يُزيل الطلاب المحتجون مخيمهم من الحرم الجامعي، مقابل وعدٍ بأن تعيد الجامعة النظر بعلاقاتها مع شركات مرتبطة بإسرائيل، ممّا جعل الطلاب المحتجين يوافقون على إنهاء احتجاجهم وتفكيك مخيمهم، مع وعد بأن يُدعى خمسة طلاب للقاء خمسة من أعضاء مؤسسة جامعة براون لتقديم حججهم بشأن سحب استثمارات براون من شركات تسهل وتستفيد من الإبادة الجماعية في غزة، وهذا الاتفاق - بالتأكيد - يمثّل أول تنازل كبير من جانب إدارة جامعة أمريكية إزاء الحركة الطلابية الاحتجاجية.

قبل سنوات قليلة لم تكن القضية الفلسطينية معروفة لدى الشعب الأمريكي، بسبب سيطرة اللوبي الصهيوني على وسائل الإعلام المختلفة من إذاعات وصحف وتلفزيونات وسينما، واستحواذ هذا اللوبي على القرار الأمريكي من خلال السيطرة على الكونجرس وغيره من مؤسسات اتخاذ القرار، والآن بفضل «طوفان الأقصى» أصبحت تدوّي في مؤسسات المعرفة الأمريكية العريقة، شعاراتٌ مثل «فلسطين حرة» و «لن نستريح ولن نتوقف، أوقفوا الاستثمارات والشركات الداعمة لإسرائيل واكشفوا عنها»، وهذا مؤشر يدل على ما بعده، وبحسب البروفيسور ديفيد بالومبو ليو، أستاذ الأدب المقارن في جامعة ستانفورد، فإنّ المزيد من الشباب الأمريكيين يرون أنّ الدفاع عن فلسطين «اختبار أخلاقي حقيقي للعالم»، وهي نظرة الفيلسوفة والكاتبة والناشطة الحقوقية الأمريكية أنجيلا ديفيس، كما نقل عنها موقع «الجزيرة - نت»، التي ترى أنّ التضامن مع غزة هو ما أجج حركة الاحتجاجات في الجامعات الأمريكية، «بل كان اعتقال الطلبة في جامعة كولومبيا ومعاقبتهم بعد استدعاء رئيسة جامعة كولومبيا نعمت شفيق شرطة نيويورك لفض الاعتصامات، بمثابة تيار الهواء الذي غذّى ضِرَام المظاهرات ودفع الكيانات الطلابية في الجامعات الأخرى للانخراط فيها، وما لبث الأمر أن تطور بعد أن تلقت الحركة المناهضة للعدوان الإسرائيلي على غزة دعمًا من داخل الجامعات وخارجها»، وانتقد العديد من هيئة التدريس وطاقم الجامعة في كولومبيا بمن فيهم الأساتذة الجامعيون قرار اعتقال الطلاب، واحتج المئات منهم على ذلك في وقفة حمل فيها الأساتذة شعارات تشيد باعتصامات الطلاب وتطالب برفع العقوبات عنهم.

ويبدو أنّ تعاطي نعمت شفيق رئيسة جامعة كولومبيا الأمني مع الاحتجاجات - ربما بسبب خلفيتها الشرق أوسطية - والذي دفعها للطلب من الشرطة أن تتدخل وتدخل حرم الجامعة لأول مرة منذ خمسين سنة - وفقًا لتصريحها ذاتها - أسدى خدمة هائلة للقضية الفلسطينية، حيث كان هذا التعاطي هو الفتيل الذي أشعل النار في الجامعات الأمريكية الأخرى، وهو تعاطٍ أمني خاطئ لا تلجأ إليه الحكومات التي تدّعي لنفسها أنها تُمثل «العالم الحر»؛ فلا يوجد أيّ اختلاف بين الاقتحام الأمريكي لجامعة كولومبيا مع أيّ اقتحام آخر في دول «العالم الثالث» المتخلفة.

ما حدث في جامعة كولومبيا من انتفاضة الطلاب، وما حصل في الجامعات الأمريكية الأخرى من الاعتقالات وبهذا الحجم، ربما يحدث للمرة الأولى في تاريخ أمريكا الحديث، وكأنّ رسالة ذلك تقول: لا مساس بإسرائيل، وهو يعني قمع حرية التعبير، الأمر الذي عانى منه الطلاب المناصرون لفلسطين في جامعاتهم منذ بداية الحرب في أكتوبر الماضي، ولا يمكن لأيٍّ كان أن يزعم أنّ الاعتصامات لم تكن سلمية، فقد نفذتها «مجموعة من الطلاب كانت تخيم على العشب في وسط الحرم الجامعي، ولا يختلف هذا عن الحياة اليومية في الجامعة» كما علق باسم خواجة لصحيفة «الغارديان» البريطانية، وهو محاضر في جامعة كولومبيا وخبير بحقوق الإنسان.

إنّ تعاطف الطلبة في الجامعات الأمريكية مع القضية الفلسطينية، أدى إلى طرح نقطة مهمة للنقاش، وهي: أين الأموال العربية الهائلة في أمريكا وماذا تفعل هناك؟ وماذا أفادت القضية الفلسطينية أو الأمة؟ فتلك الاعتصامات في الجامعات العريقة أظهرت حجم التمويل الذي تتلقاه من متبرعين يهود داعمين لإسرائيل وللصهيونية. فَوُفق تقرير لشبكة «سي إن إن»، هدد متبرعون يهود لجامعة هارفارد وجامعة بنسلفانيا بقطع علاقاتهم بالجامعات، ردًّا على انتشار ما وصفوه بــ «الخطاب المعادي لإسرائيل والمعادي للسامية» في الحرم الجامعي، وقد تخلى عن هذه الجامعات عدة مُمَوِّلين بالفعل، لذا نجد أنّ بنيامين نتنياهو رئيس وزراء الكيان يدخل على الخط، ويصف ما حصل أنه «فظيع»، واصفًا الطلاب المحتجين بأنهم «مجموعة من الغوغاء المعادين للسامية»، متّهِمًا إياهم عبر تغريدة له في «إكس» بمهاجمة الطلبة والأساتذة اليهود، متجاهلًا حقيقة أنّ الكثير من الطلبة المحتجين يهود، «حتى إنّ بعضهم لجؤوا إلى ارتداء قمصان يشيرون فيها إلى هويتهم» حسب تقرير الجزيرة - نت.

طبقت الإدارة الأمريكية سياسة الكيل بمكيالين، فلم تواجه احتجاجات الطلبة الإسرائيليين أو نشاطاتهم الرد نفسه الذي واجهه الطلاب المناصرون لإسرائيل، بل إنّ الجامعات صبّت جلّ تركيزها على حمايتهم ورعاية مشاعرهم في مجتمعاتها الطلابية، بخلاف الطلبة المناصرين لفلسطين، الذين حولهم موقفهم من طلاب يرتادون أرقى الجامعات الأمريكية، إلى خطر يهدِّدُ أمن الجامعة حسب ما يقوله نُقّاد الحركة.

ما حصل يُحسب لطوفان الأقصى، وهو أبلغ من ملايين الخُطب الرنانة التي دُبِّجتْ لصالح القضية الفلسطينية طوال العقود الماضية، وقد رأينا كيف امتدت الاعتصامات إلى عواصم عالمية أخرى كباريس ولندن، ولكن السؤال المهم الذي يجب أن يطرح الآن هو: كيف يمكن للفلسطينيين أن يستثمروا ذلك؟ كان الأولى أن يكون السؤال: كيف للعرب أن يستثمروا ذلك؟ لكن العرب غائبون عن الساحة العالمية تمامًا، للأسف الشديد.

زاهر المحروقي كاتب عماني مهتم بالشأن العربي ومؤلّف كتاب «الطريق إلى القدس»