حتى لا تتكرر تجربة الاختراقات الأجنبية في الخليج

21 يونيو 2023
21 يونيو 2023

تسير دول مجلس التعاون الخليجي على النهج نفسه الذي سارت عليه دول عربية في مشرق وطننا العربي ومغربه، وذلك عندما فتحت مجتمعاتها -دون ضوابط وقيود- ما غزتها به دول ومؤسسات أجنبية في أعماقها الاجتماعية وبنياتها السياسية والفكرية، وتحولت مؤسسات مجتمعاتها المدنية ونخبها المختلفة إلى ما يسمى بجيوش مدنية تخدم أجندات أجنبية أخرى، وقد تابعنا دورها في أحداث الربيع العربي 2011 ولا تزال حتى الآن، ولا نتمنى نسخ هذه التجربة في داخل مجلس التعاون الخليجي، فذلك سيكون ثمنه كبيرا على الدول والمجتمعات معا، وهنا لا يمكن أن نستثني دولة خليجية دون أخرى، فالدول الست تتساوى الآن في تبنّي خيار الانفتاح عن طريق البوابة الاقتصادية، وفي حالات تكون زيادة العدد السكاني فيها مطلبا لكونه قد أصبح موردا ماليا وعاملا لتنشيط الحركة التجارية الداخلية.

وهذه القضية من طابوهات السياسة الخليجية، فرغم خطورتها المستقبلية، فلا أحد يتحدث عنها، وكل الانشغالات تنصب على البناء الاقتصادي والمالي، بينما يترك الأبواب مفتوحة للتغيير الاجتماعي، أي دون وجود خطة ممنهجة للتطوير المحكوم بالنتائج المستهدفة لبعض الدول، والأخرى يتم التغيير فيها عبر أهواء ورغبات انفتاحية بصورة راديكالية، مما يجعل المجتمعات الخليجية في كلا المسارين عرضة لاختراق أصحاب الأجندات المسيّسة من الداخل والخارج، وأجندتهم لم تعد سرّية، بل معلنة بصورة صريحة ومباشرة، وقد تناولنا بعضها في مقالات سابقة، كإعلان وزارة الخارجية الأمريكية مؤخرا تقديم منح مالية لنشر الإلحاد في المنطقة.

وتصل الجرأة الآن بأصحاب مثل هذه الأجندات إلى الكشف عن هدفهم بجعل المثلية ضمن التعدد والتنوع داخل كل دولة، وسينجحون في صناعة التوترات الداخلية، وشغل كل مجتمع بدواخل ذاتيّته في ظل وجود تاريخ فرداني للصناعة التي يروّجون لها، مع استغلال بعض الموروثات الشعبية كمدخل للتوظيف، وتعزيز الفردانية وإطلاقها مع تقييد تدخل الحكومات في حريات وحقوق الفرد الفردانية، أي تعظيم القيمة المعنوية والمادية للفرد المستقل في ذاته، والمعتمد على نفسه.

وهذا من أهم المداخل الأساسية التي يتوقف عليها نجاح مثل تلكم الأجندات، مما يستوجب رسم مستقبل اختراقاتها في الخليج في ضوء مسارات غير مسبوقة، وهي:

- الانفتاح الاجتماعي غير المدروس في دول مجلس التعاون الخليجي.

- سياسة الضرائب والرسوم والدخول الاجتماعية المحدودة.

- انتقال الأجندات الأجنبية القديمة والجديدة إلى المنطقة الخليجية بعد نجاح تجربتها في الكثير من الدول العربية.

ومما تقدم، لا يعني أن الاختراقات لم تطل دول المجلس الخليجي، قديما وحديثا، بل كان لها نصيب ومنذ التسعينيات وصلت إلى جمعيات النساء، بحيث أصبح هناك ليس في كل دولة ما يسمى «بأصدقاء أمريكا» كما أشرنا إليها في مقال سابق، وشهدنا فوق مشهدنا الوطني خلال الحقبة السياسية السابقة بروز نخب من مصنع الاستقواء الأجنبي، ورغم ذلك، تظل الاختراقات محدودة في عموم الخليج، واستشرافنا يشير إلى تعاظمها وتعمقها وانتشارها داخل دول مجلس التعاون الخليجي، ولن يستثنى منها الدول سواء الحليفة والشريكة للغرب الأمريكي أم غيرهم، فالاختراقات الأجنبية هي أدوات ضغط على الدول لضمان المصالح أو تحقيق المزيد منها، ويضاف إليها الآن نشر الإلحاد والمثلية والنسوية ضمن سياق التنوع الفكري في المنطقة.

ولدواعي رفع الوعي السياسي بمستقبل الاختراقات الأجنبية في عمومها، سنتعمق هنا في الكشف عن صور الاختراقات وفق النموذج الأمريكي، وسنعتمد هنا على عدة مصادر، أبرزها رسالتنا لنيل الدكتوراه المعنونة باسم «ضمانات حقوق الإنسان وحرياته الأساسية في النظام الأساسي العماني» وفيها محور حول مؤسسات المجتمع المدني، واختراقاتها الأجنبية «النموذج المغاربي» وكذلك كتاب «الشركة» وهو كتاب مشهور للكاتب الأمريكي فيليب اجي الذي كان ضابطا في المخابرات الأمريكية، وقد كشف فيه عن اختراق الاستخبارات للعديد من مؤسسات المجتمع المدني حول العالم، وقد حصره في ثلاث صور أساسية، هي:

- التجنيد الاستخباري لرموز النخبة السياسية في البلد المستهدفة، ثم تمويلهم لاصطناع منظمات مدنية من الصفر، مهمتها القيام بالتسويق للرؤى والسياسات الأمريكية.

- تمويل المؤسسات القائمة ماديا لاتخاذ مواقف سياسية محددة سلفا تخدم سياسات ومصالح واشنطن في البلد المستهدف.

- الدعم السياسي والمعنوي لمؤسسات حقوق الإنسان عن طريق دعوة القائمين عليها لمؤتمرات دولية، وتوظيفهم كمستشارين وأكاديميين في هيئات أمريكية ودولية، بهدف ترقيتهم سياسيا وإعلاميا في البلد المستهدف.

وقد أقامت واشنطن لهذا الغرض عدة مؤسسات ومبادرات، وافتتحت لها فروع في عواصم عربية، ونذكر مثلا، مبادرة الشراكة مع الشرق الأوسط التي أطلقتها وزارة الخارجية الأمريكية في ديسمبر 2002، والمعروفة باسم «ميبي» ولها ثلاثة مكاتب في الدول العربية، أحدها في دولة خليجية معنية بمنطقة الخليج العربي، وهنا نلاحظ تاريخية الاستهداف لهذه المنطقة، لكنه كان سياسيا وفكريا أكثر منه مدنيا.

وقد قدمت المكاتب الثلاثة داخل المنطقة العربية مساعدات مالية للمؤسسات المدنية والأهلية تقدر بالملايين سنويا في كل دولة، فمثلا عام 2008 قدمت للمؤسسات في دول مغاربية أكثر من ثلاثة ملايين دولار، ولمشروعات فردية فيها ما بين «15 - 25» ألف دولار للمشروع الواحد، وفي «17» دولة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بلغت مساعداتها «350» مليون دولار، وفق إحصائيات مكتبها في تونس.

هل تدفع واشنطن هذه الملايين للمؤسسات والأفراد من ضرائب الأمريكان بالمجان دون مقابل؟ تساؤل بديهي ومستهلك، لكن السياقات تطرحه هنا بصوت مرتفع، ويزداد طرحه بإلحاح الآن بعد تحويل الخارجية الأمريكية برنامج مساعداتها المالية الخارجية لنشر الإلحاد في المنطقة بعدما كان يخصص لنشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويبدو أن مثل هذه القضايا تتراجع الآن في سلم الاهتمامات السياسة الخارجية الأمريكية، وهذا التحول النوعي في مساره، والكمي في نتائجه، يطرح تساؤلا حول أسبابه، ولماذا الآن؟.

ومن المؤكد أن الإجابة على التساؤلين سنجدهما في قراءتهم للتحولات الدراماتيكية والبرغماتية التي تجري في الخليج تحت جنوح إصلاح الاقتصاد وإقامة منظومة متكاملة للضرائب، وتغيير دور الدولة من المتدخلة في الاقتصاد والمجتمع إلى رفع يدها بالقدر الذي تؤمن الحد الأدنى من الأساسيات للفئات الأكثر تضررا، أي تطبيق النيوليبيرالية، وهنا سنجد المجتمعات الخليجية مكشوفة للاختراقات، بل ستكون بيئتها الداخلية الجديدة تدفع بها إلى الارتماء في أحضان كل من يملك المال أو يوفر الوظائف، وهم بطبيعة الحال المستثمرون القدامى والجدد في الخليج، حيث تسمح لهم القوانين الخليجية الآن بالتملك الحر للعقار في المدن والمجمعات السياحية المتكاملة، فخلال السنتين الماضيتين دخلت أفكار أيديولوجيات وديموغرافيات مسيّسة في كل دولة خليجية، مع التفاوت، تدق ناقوس الخطر.

ونجزم من خلال دراستنا لتجربة الاختراقات في دول المغرب العربي أن نسخها ستتكرر في الخليج إذا أخذنا بعين الاعتبار مسارات فتح المجتمعات الخليجية، وإضعافها ماليا وفكريا.. وستتحول المؤسسات المدنية والكثير من النخب فيها إلى جيوش داخلية يحركها الخارج سواء لفرض وترسيخ أجنداتها الفكرية والأيديولوجية أو السياسية أو لتحصل على المزيد من المصالح والمنافع في كل دولة، ولن يقتصر الاختراق من الغرب، وإنما من الشرق كذلك، فهل بحثت هذه القضية أثناء محادثات الشراكة الخليجية الأمريكية ؟.

ما بين الشركاء والحلفاء يجب أن يكون هناك خطوط حمر، يقف الأجنبي عندها، ولا يتدخل فيها، ودول المنطقة قادرة الآن أن تُلزم شركاءها وحلفاءها بهذه الخطوط، فحِقَب تدخل الشركاء والحلفاء وبالذات لندن وواشنطن في كل شؤون الدول الخليجية الداخلية والخارجية قد ولّى، ويجب أن يكون كذلك فعليا، لكن يبدو أن هذه القضية خارج دائرة الاهتمام السياسي الخليجي رغم توفر الإمكانية المتاحة للخليج، وإذا لم تلغ الحكومات الخليجية تدخلات لندن وواشنطن والغرب عموما في شؤونها الداخلية، فإن تجربة الاختراقات المغاربية نراها من الآن بالعين المجردة، ويمكن إضافة التدخلات الصهيونية من الكثير من البوابات، كالبوابة الاستثمارية، والتأشيرات الثنائية أو الجماعية.