حاجة الأمة لبناء ذاتها وتعزيز قدراتها

15 يونيو 2022
15 يونيو 2022

مع كل أزمة تحدث في عصرنا الراهن، تجد أمّتنا العربية، وكأنها وُضعت في إشكالات أخرى تضاف إلى ما تعانيه من أزمات قائمة خاصة بعد انخفاض أسعار النفط ووباء كورونا، وكأنها لا تعرف أن التحولات التي تحدث بين الدول هي من طبيعة الصراعات الدولية، وقد حصل مثلها في العقود والقرون الماضية، وتلك من المسلّمات البشرية التي تجري منذ فجر التاريخ ولا مفر منها، وستبقى كذلك في خضمّ التكتلات السياسية والعسكرية والاقتصادية في هذا العصر، فقبل عدة أشهر مضت كما نعرف جميعا، اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية، وأوكرانيا هي البلد الكبير المحاذي لروسيا جغرافيا، وقد كانت -كما هو معروف- ضمن الاتحاد السوفييتي سابقا، ومع المعسكر الاشتراكي الذي يتزعّمه هذا الاتحاد في ظل الحرب الباردة التي جرت بعد الحرب العالمية الثانية، وقد كان المقابل للمعسكر الرأسمالي الغربي الذي يضم الولايات المتحدة وغرب أوروبا والذي لا يزال يحاول جذب بعض الدول من المعسكر الآخر.

وهذا حدث بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في عام1991، وتلاشي المعسكر الاشتراكي في شرق أوروبا، وبعدها الكثير من الدول التي خرجت من المعسكر الشرقي الاشتراكي بعد هذا الانهيار والتفكك ذهبت بعض هذه الدول التي كانت في حلف وارسو الشرقي، للدخول في حلف الناتو ضمن المعسكر الرأسمالي الليبرالي، وتخلّت عن النزعة الشمولية في النظم الاشتراكية، ودخل بعضها في الاتحاد الأوروبي، عدا بعض دول هذا المعسكر التي بقيت مستقلة وبقيت محايدة مع دول تحالفات أو محاور سياسية في أي معسكر من المعسكرات السياسية، ومن هذه الدول جمهورية أوكرانيا، وبعض الدول التي كانت ضمن العسكر الاشتراكي والتي تحاول الآن الدخول في الاتحاد الأوروبي أو حلف الناتو.

هذه الحرب بين روسيا وأوكرانيا، أثّرت على الواقع الاقتصادي في العالم كله ومنها دولنا العربية، التي لها مصالح مع الاتحاد الروسي، وكذلك مع جمهورية أوكرانيا، وهذا ما يجعل الوطن العربي يعاني بعض الأزمات الناتجة عن هذه الحرب التي بدأ بعض أثرها على بعض الدول العربية، ومنها أزمة استيراد الحبوب وبعض المنتجات الاستهلاكية وغيرها من مجالات التعاون الأخرى الفنية والاقتصادية، والخوف الأكبر من استمرار الحرب أو قد تتوسع لتصل لحرب عالمية بين روسيا والغرب الذي يقف مع أوكرانيا، وهذا الأمر قد تكون له مخاطره الكبيرة على الغذاء في العالم كله، وأكثر المتضررين نحن العرب؛ لغياب مشاريع عملاقة تحقق لنا الاكتفاء الذاتي، وهذا ما نحن نتحدث عنه منذ أكثر من ثلث قرن والكلام لا يكف عن ضرورة (سلة الغذاء) في وطننا العربي، دون أن يتحول الكلام إلى فعل واقعي، يغنينا عن الاستيراد الخارجي، ويجنّبنا الحروب والصراعات الخارجية التي قد بسبب لنا أزمات اقتصادية داخلية.

والكثير من دول العالم اتّجهت إلى التكامل الاقتصادي في أوروبا وآسيا، وحققت الكثير من المكاسب، إذ وضعت لنفسها نظما وقوانين محددة للتعاون فيما بينها من تنمية اقتصادية وتكامل في الكثير من المجالات من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي، وهذا ما تحقق في الاتحاد الأوروبي، ككتلة سياسية واقتصادية، ويذكر الباحث الدكتور محمد محمود الإمام في قضية التجربة الأوروبية أن هذا الأمر تم من خلال إرادة مشتركة بين دول الاتحاد الأوروبي، من خلال نظم قانونية وتشريعية لتحقيق هذا التعاون والتكامل، ولذلك نجح في تحقيق هذه الكتلة الليبرالية في تكاملها: «ويتمتع الاتحاد الأوروبي بشخصية قانونية دولية مستقلة عن الشخصية القانونية للدول الأعضاء وله بنية مؤسسية مستقلة عنها تؤدي وظائف ومهمات تستهدف في المقام الأول تحقيق مصلحة أوروبية عامة تمس المجتمعات الأوروبية، أفرادًا وجماعات على حد سواء، وفقًا للتصوُّر الوارد في المعاهدات الأساسية. وهي شخصية من طبيعة مختلفة عن تلك التي يتمتع بها مختلف الفاعلين الدوليين الآخرين. فلا هي شخصية مكبلة بالقيود المفروضة على المنظمات الدولية الحكومية التقليدية، ولا هي شخصية مطلقة الحرية بالقدر نفسه المعترف فيه للدول، لكنها شخصية دولية من طبيعة خاصة تجمع بين بعض سمات وملامح الشخصية القانونية الدولية الممنوحة للمنظمات الدولية الحكومية التقليدية».

بالنسبة إلى دول جنوب آسيا أيضا، اتّجهت إلى التكامل والتعاون البيني بين دوله، في المجال الاقتصادي والتعاون الصناعي وغيرها من الاتفاقيات التبادلية في المجال التعاون الاقتصادي، ولذلك تقرر كما يقول دكتور محمد الإمام: «تعزيز الأمانة العامة لتمارس عملها في شكل وضع برامج متكاملة لتطوير الآفتا ومراجعة أوجه التعاون لا سيما في الصناعة والعلم والتكنولوجيا بما فيه حقوق الملكية الفكرية، وكذلك أوجه التعاون الوظيفي، محققة بذلك ترابطا ظل مفتقدًا في أعمال الرابطة. وتنفيذا لاتفاقية تصعيد التعاون الاقتصادي قررت قمة 1995 الإسراع بإنجاز الآفتا في 10 سنوات بدلا من 15». لكن أمتنا بقيت بعيدة عن التكامل الفعلي والجدي، الذي يغنيها من الحاجة للاستيراد من الخارج، على الرغم من التنوع في القدرات التي يمكن أن تتحقق للأمة من خلال تكاملها الاقتصادي والتنموي، وكان الحديث عن هذا قد تم النقاش حوله، لكن لم تتم الكثير من المشاريع العملاقة التي يفترض أن تقام، ويقول الباحث طاهر حمدي كنعان في بحثه عن (التعاون الاقتصادي العربي)، الذي تأخر كثيرا عن التطبيق: «لقد تصدى مفكرون كثيرون لتفسير ذلك التدني في مستوى الالتزام بالعهود والمواثيق العربية، وفي تعثر مسيرة التعاون الاقتصادي العربي تبعًا لذلك. وكان التفسير الذي أجمعوا عليه مرارًا وتكرارًا هو ما أطلقوا عليه (ضعف أو غياب الإرادة السياسية التي تقرر الالتزام بالاتفاقيات وتنفيذ المعاهدات). لكن القول: إن الحكومات لا تنفذ الاتفاقيات لأنها لا تملك الإرادة السياسية، هو من قبيل تفسير الماء بالماء، فالقول: إن الحكومات لا تنفذ الاتفاقيات لأنها لا تريد تنفيذ الاتفاقيات هو كلام لا يضيف أي معلومة جديدة عن أسباب عدم التنفيذ، ولا يحلل العوامل التي كوّنت هذا الاستنكاف عن احترام الالتزام وجعلت الإرادة السياسية غائبة عن دعم التزامات التعاون الاقتصادي العربي. التفسير المفيد المطلوب هو الذي يحدد هذه العوامل حتى نرى كيفية التعامل معها والتأثير فيها».

أمتنا بحاجة للخروج من أزماتها المختلفة السياسية والاقتصادية، وأن تتجه بالفعل إلى التكامل الجدي والتعاون الذي يمنحنا الاكتفاء الذاتي بين دولنا وتحقيق الأمن الغذائي، وإلى رؤى أكثر واقعية تجاه المطالب القومية التي تحقق طموحاتنا الاستراتيجية الفعلية، وهذا يتطلب قرارات وتوصيات، لا توضع في الأدراج بعد الاجتماعات والمؤتمرات التي تجري بين النخب السياسية والاقتصادية، بل إلى أفعال وأعمال تحقق ما هو أفضل للأمة من نجاحات على كل المستويات، وهذا لن يتحقق إلا بالإرادة للوصول إلى الأهداف المرجوة لأمتنا.

عبدالله العليان كاتب وباحث في القضايا السياسية والفكرية مؤلف كتاب « حوار الحضارات في القرن الحادي والعشرين»