حاجاتنا.. بين نسبية الأساسيات والرغبات

27 مايو 2024
27 مايو 2024

يمكن النظر بكثير من الاهتمام، إلى هرم الحاجات البشرية بما يعرف بـ «هرم ماسلو» عند الحديث بين الحاجات الإنسانية الأولية «الضرورية» وبين الرغبات «الترف» فالتقسيم المرحلي الذي جاء فيه يذهب في كل مرحلة من المراحل التي يرتقي إليها البشر أو يتدرجونها لتلبية الحاجات البيولوجية عند الفرد، حيث ترتقي هذه الحاجات التي بدأت أساسية «فطرية» إلى المستويات الثانوية «النفسية» والتي تحرص على كسب المزيد من الإشباعات، وهي عملية «بقدر تعقيداتها» إلا أنها مستمرة وتزداد أهمية كلما أنجز الفرد عمرا مقدرا في حياته، حتى يصل إلى نهاية «على آلة حدباء محمول» فهذا التدرج في تلبية الحاجات من الأساسية إلى الثانوية حيث الرغبة، هي التي تعطي هذا الإنسان النفس للبحث عن المزيد من المكاسب المادية والمعنوية على حد سواء، وعندما يوصف كل ذلك بـ «سلطة غير مقيدة» فإن في ذلك دلالة على أن حاجات الإنسان لا تتوقف عند حد معين من مستويات حياته التي يمر بها وفق العمر المتاح له، وهذه الصورة تأتي مصداقا للحديث النبوي الشريف: «لو أن لابن آدم واديا من ذهب أحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب» أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم - مع أن المناقشة هنا لا تذهب إلى حالة الطمع التي تكون عليها النفس الإنسانية غالبا وإنما تذهب أكثر إلى حتميات الترقي المادي والنفسي التي تعيشها النفس البشرية في جميع مراحل نموها من ناحية، وإلى الانتقال بهذا الاحتياج «الضروريات» إلى مستويات الرغبة «الكماليات» وهذا ما قد يفسره البعض على أنه من الطموحات البشرية، وهي أمر مشروع للتطور المادي والفكري في آن واحد، فالطموحات ليس يسيرا ارتقائها إن لم يسندها عامل فكري يتواكب مع نظرة أصحابها، وبالتالي فهذا ما يقاس عليه مستويات المعيشة عند الأفراد، ومجموع تمايزاتهم في مختلف شؤون الحياة الأخرى، وهذا الأمر بقدر ما ينطبق على الأفراد ينطبق على المجموعات البشرية، ينطبق على الدول، وبقليل من التأمل تتضح الصورة أكثر، ومن هنا يأتي التصنيف: دول غنية، ودول فقيرة، كما هو الحال أسر غنية، وأسر فقيرة، وكذلك فرد غني، وفرد فقير، أليست هذه هي الصورة الماثلة في حياتنا اليومية؟

ولذلك فهناك من ينتقد مستويات الرغبة الجامحة أو المبالغ فيها، ويذهب بها إلى القول على أنها صورة مركبة لمعنى الترف، حيث لا يكتفي الفرد بالحاجات البيولوجية والحاجات التي تحافظ على حياته الدنيا «المتدنية» وبهذا المعنى تتجاوز الرغبات حاجاتها الأساسية، فتنقل من حاجات الفطرة إلى فضاءات الرغبة، والرغبة كما هو معلوم بالضرورة ليس لها حد الارتواء، حيث تتيح للإنسان الفرد أو المجموع التفكير في المزيد، والتفكير في المزيد هو الذي يقوض العلاقة القائمة بين الفرد وحاجاته الأساسية، ولعل هذا هو مأزق الغالبية العظمى من البشر، مع إدراكهم أن الانغماس في الرغبة، لن يكون الأمر يسيرا للعودة إلى المربع الأول لإيجاد فرصة للمراجعة، واتخاذ القرار الرشيد لوقف نزيف الكثير من محددات شخصية الفرد، ففي مساحة الرغبات يتم تجاوز كل القيم الضابطة، والأعراف المقر بأهميتها في تنظيم السلوكيات والممارسات، ولن يكون الأمر يسيرا أمام الفرد «المنغمس» في الرغبات الالتفات إلى الوراء ليدرك كم هو مخطئ في حالته هذه، وكم هو على صواب، لأن اكتشاف الخطأ لا بد أن تكون هناك لحظة زمنية يتم فيها المقارنة بين صورتين (قبل/ بعد) مع أن «بعد» تظل هي المستحوذة على الصورة الماثلة في لحظة المقارنة، بينما تظل الصورة «قبل» بعيدة، ومشوشة، ولن يكون من اليسير استحضارها كما بدأت أو مرت، فذلك زمن بعيد.

والسؤال هنا: ما الذي يقيد سلطة الشروع - والسلطة هنا ذاتية - في اكتساح كل الحاجات الإنسانية وما الذي يتركها مشرعة على امتداد جهاتها الأربع؟ هل هي الحالة المادية الصرفة؟ أم البيئة المحيطة بالفرد؟ أم المعززات الذاتية عند الفرد (الذكاء رجاحة العقل حسن التصرف الحكمة مستوى العمر المنجز المحتوى المعرفي العالي الهمة وضوح الأهداف التخطيط المتقن)؟ أم القدر المكتوب؟ فالإنسان بقدر ما هو مخير في كثير من جوانب حياته، هو في الوقت نفسه مسير، وهذا التسيير يقينا له الفضل في حمايته من الابتذال والتردي في الحياة، فالإنسان مهما امتلك من معززات مادية ومعنوية، وبسطت أمامه كل معززات النجاح يبقى هناك أمر القدر المكتوب عليه، حيث لا يمكن تجاوزه، وهذا ما لا يفهمه الأفراد الماديون الذي لا يؤمنون إلا بما هو متحصل بين أيديهم، ويتجاوزن كل مسبب غير مادي، حيث يقيمون ذلك على أنه نوع من الخرافة، ولذلك فمثل هؤلاء عندما يسقطون عن الوصول إلى مستويات تحقيق رغباتهم، تظلم الحياة أمام ناظريهم، ولا يرون أفضل وسيلة لهم سوى مفارقة الحياة، وبالتالي تكثر فيما بينهم حالات الانتحار، وهو السلوك المتاح في بيئة الرغبات، لأنه يمكن الإقدام عليه، ويمكن التراجع عنه، ولا يكون الانتحار هنا حاجة أساسية، ولذلك لا يقدم عليه إلا من انغمس في مساحة الرغبات في اتساعها، وتكبل بصورها الاحتفالية الذهنية والمادية على حد سواء.

يوصف تدرج الحاجات على أنه معقد، وتعقيده هنا وفق وجهة نظر خاصة أنه ينبئ في تدرجه عن حالة تصادم مع الرغبات، فحاجتي - على سبيل المثال - إلى مركبة خاصة أمر لا يحتاج إلى كثير من الجدال سواء مع نفسي، أو مع المحيطين من حولي، ولكن عندما نسقط هذه الحاجة في متون الرغبة، فسوف تتهاوى عليك مجموعة من الأسئلة: نوع المركبة، سنة الصنع، اللون، الحجم، القوة، عدد الركاب، مواءمتها للمدينة، وماذا عن ضرورة السفر إلى منطقة جبلية/ رملية، فهذه الصور كلها تضع متاريس غير منكورة لسلطة اتخاذ القرار الصائب، وقد يفشل مشروع الشراء، والاكتفاء باستخدام مركبات الأجرة، أو الوسائل الأخرى المتاحة، خاصة في بعض المجتمعات قد لا يحتاج الفرد لأن تكون له مركبة خاصة إطلاقا، لأن وسائل النقل متنوعة، وسهلة، وتكلفة استخدامها يسيرا ومبسطا، وخاصة اليوم في ظل تطور التقنية، حيث ستحل قريبا مركبات يتم استخدامها عبر تطبيقات الأنترنت، وفي هذه الصورة الأخيرة تضمن الحاجة موقعها، وتنسل الرغبة مشعرة بالهزيمة.

وهنا يمكن طرح سؤال ثان هل يمكن تقييم الحياة البدائية التقليدية التي تعيشها بعض المجتمعات البشرية اليوم في بعض دول العالم على أنها أقل تعقيدا في مسألة مزاحمة الرغبات للحاجات الأساسية للإنسان؟ فالحياة هناك كما نسمع أو نقرأ قائمة على الفطرة، وعلى الكفاف؟ ذلك ما يحتاج إلى كثير من البحث للوقوف على حقيقته، ولكن الشاهد أن الأفراد الذين يعيشون في المجتمعات التي تجاوزت مراحل الحاجات الأساسية، إلى مستويات الرغبات غير المقيدة، تنبئ سلوكياتهم سواء مع أنفسهم أو مع الآخرين من حولهم، عن حالة من عدم الانضباط القيمي «الأخلاق» على اعتبار أن القيم هي الميزان الذي يقاس عليه مستوى المثالية ما بين ضروريات الحاجات الأساسية وبين كماليات الرغبات «الترف» وتكون خطورتهم أكثر تأثيرا، وضررهم في البيئة التي يحلون فيها أكثر خطورة، ولا يقتصر ذلك على المستويات العمرية فقط، بل كل الأعمار تتساوى في إبداء مختلف سلوكياتهم النزقة التي تعكس حالتهم المرتبكة في التعامل مع الآخر، ومع أنفسهم كذلك، وذلك منعكس حتى على أنظمتهم السياسية، حيث الفوقية والنرجسية، والتلويح باستخدام القوة المفرطة لتنفيذ ما يودون تحقيقه، واستخدام أسلوب الأمر، مع أن حقيقتهم في ميزان الإنسانية لا تساوي شيئا، فهم أقرب إلى سلوكيات الحيوانات منهم إلى الإنسان، فوق نجاستهم المعنوية والمادية.

والسؤال الأخير في هذه المناقشة: هل يمكن القول إن الإنسان في عمره المتأخر، وعندما يكتفي بالحاجات الأساسية فقط، متجاوزا كل الرغبات يكون بذلك قد وصل إلى الغاية المثالية للحياة؟