«جيل زد» وخياراته في النيبـال
15 سبتمبر 2025
15 سبتمبر 2025
انتشر خطاب ناري لمراهق غاضب - أشعل فتيل ثورة شعبية وأسقط الحكومة في النيبال عبر مواقع التواصل الاجتماعي عالميا كالنار في الهشيم دحضا لكل زعم يتبنى فكرة حظر وسائل التواصل الاجتماعي سببا للحراك الشعبي. بدأت القصة في الرابع من سبتمبر الحالي حين أعلنت الحكومة النيبالية حجب ما يقارب ٢٦ منصة للتواصل الاجتماعي، من بينها فيسبوك ويوتيوب واكس وواتساب وغيرها، بحجة مخالفة قواعد التسجيل، ورفض تعيين ممثلين محليين والسعي لضبط المحتوى، لكن الشارع النيبالي وجد في الحظر محاولة لتقييد حرية التعبير، فاشتعل الغضب الشعبي، خاصة بين الشباب مع معاناتهم أزمة أبعد من حظر التواصل الرقمي، حيث يواجهون شح فرص العمل وممارسات الفساد وسوء الإدارة، وفي الثامن من سبتمبر انفجر الغضب في الشوارع حين احتشد آلاف الشباب، ممن يطلقون على أنفسهم متظاهري جيل زد مواليد ۱۹۹٥ - (۲۰۱۰)، في ساحة ما يتيغر مندالا» القريبة من البرلمان رافعين شعارات ضد الحظر ومنددين بامتيازات أبناء النخبة، أو ما يعرف محليا بـ « نيبو كيدز سخرية من أبناء السياسيين وكبار المسؤولين المتباهين بمظاهر ترفهم في بلد يرزح شبابه تحت وطأة البطالة، إذ تعاني نيبال من معدلات بطالة مرتفعة، خاصة بين الشباب، قاربت نسبتها ٢٠% العام الماضي، فيما يتجاوز معدل من لا يعملون ولا يدرسون بين الفئة العمرية نفسها نسبة ٣٠%، إلى جانب البطالة، تعاني نيبال من تفاوت اقتصادي صارخ، فربع السكان تقريبا يعيشون تحت خط الفقر، بينما تمتلك ١٠% من الأسر أكثر مما يمتلكه غالبية السكان بنحو ٢٦ ضعفا، وقد قادت هذه العوامل إلى انفجار الغضب الشعبي، في مشهد لم يكن مفاجئا بقدر ما كان نتيجة طبيعية لإحباط عميق من فساد راسخ و تمييز طبقي وغياب للعدالة الاجتماعية.
غير أن قوات الأمن واجهتهم بالرصاص الحي والغاز المسيل للدموع فسقط ما لا يقل عن ٣٠ قتيلا وأصيب المئات خلال يومين من المواجهات الدامية الممتدة إلى منازل وزراء وصحيفة «كانتيبور»، ومعارض سيارات يملكها سياسيون، وحتى المعارضة نفسها لم تسلم ، إذ اعتدى شبان على زعيم حزب المؤتمر النيبالي ورئيس الوزراء الأسبق شر بهادور ديوبا وزوجته، مما مثل رسالة واضحة مفادها أن السخط موجه إلى الرموز السياسية كافة، لا إلى الطبقة الحاكمة وحدها. تحت وطأة هذا الضغط ومع احتراق مبان حكومية وإغلاق مطار العاصمة، أعلن رئيس الوزراء كيه بي شارما أولي استقالته، بعدما سبقه إلى التنحي - خلال أيام وزراء الداخلية والزراعة والمياه والصحة، ورغم إنهاء حجب مواقع التواصل مثل فيس بوك وإكس ويوتيوب وقطع وعود بفتح تحقيق في عنف الشرطة واستقالة رئيس الوزراء، عمد متظاهرون تجمعوا تحت راية جيل زد إلى تخريب المباني العامة ومساكن القادة ورموز السلطة الأخرى الثلاثاء وانتشرت على مواقع التواصل فيديوهات إحراق المتظاهرين المنزل رئيس الحكومة بعد هروبه، وفيديوهات لشباب يحملون زوجة وزير إلى خارج منزلها بعد أن تركها الوزير ولاذ بالفرار.
ومع نزول الجيش إلى الشوارع ودعوات المتظاهرين للحوار، أصبحت شوشيلا كاركي، الرئيسة السابقة للمحكمة العليا في نيبال، رئيسة وزراء مؤقتة للبلاد بوساطة قائد الجيش النيبالي، عبر أنصار جيل «زد» عن فرحتهم عبر منصات التواصل الاجتماعي، إذ يرى كثيرون منهم أن هذه الخطوة تمثل مرحلة جديدة في المسار السياسي الذي يطمحون أن تسلكه البلاد، الطريف أن اختيار كاركي تم بإشراك الذكاء الاصطناعي عبر أسئلة شات جي بي تي حول أفضل الشخصيات النيبالية البعيدة عن الفساد حتى استقر رأي الأغلبية على كاركي لما عرفت به من مواقف تتسم بالنزاهة، بعيدا عن مناقشة مدى مصداقية الذكاء الاصطناعي.
احتجاجات النيبال ليست مفاجئة في سياقها الإقليمي بعد سابقتيها خلال الأعوام الأخيرة في كل من سريلانكا ۲۰۲۲ و بنجلاديش ٢٠٢٤، لذات الأسباب وصولا للنتائج ذاتها من حراك غاضب وردود فعل وحشية لا أخلاقية قد تصل للنهب والدمار، وتعذيب الخصوم بأفظع الأساليب، لكن الأمر لا يعدو ردود فعل لا أخلاقية على سياسات لا أخلاقية كذلك، ولا يغيب عن محللي هذا الحراك دراسة تأثير الموقع بين قوتي الهند والصين مع احتمالات دفع كل منهما بما قد يخدم مصالحهما في هذا السياق التنافسي.
تأملات ودروس لا يمكن إغفالها تستفاد من تتابع ثورات آسيا وحراكها الشعبي الغاضب، ضمنها بل أولها السعي لتحقيق الأمن الاجتماعي عبر العد التين الاجتماعية والاقتصادية، وعدم الاستهانة بجيل الإمكانات الرقمية متوهمين انشغاله بتفاهات الدعاية الإعلانية وترهات التشتيت الاستهلاكي اليومي، كما لا ينبغي الاستهانة بقدرة الفضاء الرقمي بمعطياته وإمكاناته على امتصاص احتقان الشعوب عبر التنفيس في أقل مستوياته بعيدا عن الكبت والتقييد، لا بد هنا من توسط يبتغي توازنا بين التنفيس والتقييد، وبين تحديات الواقع وأزمات الدول وسعيها الحقيقي لحلحلة أزمات الشباب مستوعبين طاقاتهم لتحويلها مسارات تنمية وجسور إنتاجية، أو مهمشيها بإقصاء متعمد أو غير متعمد لتصييرها طاقات غضب ودمار، بلغنا الله وبلادنا خير الأولى ووقانا شر الثانية.
