ثقافة الاستهلاك.. هل أصبحت سببًا في أزماتنا الاقتصادية؟

20 مارس 2023
20 مارس 2023

تعددت النظريات والمفاهيم بشأن ثقافة الاستهلاك، ومدى تأثيرها على الحياة الاجتماعية اليومية لأفراد المجتمع؛ إذ رُبط مفهوم ثقافة الاستهلاك بما ينتهجه الفرد من ممارسات وسلوكيات يومية ترتبط بتوفير حاجياته ومستلزماته الضرورية منها وغير الضرورية، إلا أن المفهوم المتفق عليه وفقا لعدة دراسات وبحوث اقتصادية أنها «أسلوب حياة لا يتوقف فقط على ما يستهلكه الأفراد، بل يشمل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والعلاقات الأُسرية وأنماط الترفيه للأفراد». ومع تعرّض العالم خلال السنوات الماضية لعدة أزمات اقتصادية أربكت المساعي العالمية للاستمرار في سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية على المستوى الكلي والجزئي، أصبح تعزيز ثقافة الاستهلاك أمرا ضروريا للأفراد خاصة بعد أن تعمّقت الأزمات الاقتصادية حديثا جراء تفشي جائحة كوفيد-19، مما أدى إلى مراجعة الكثير من سلوكيات الأفراد الاستهلاكية غير الضرورية بدعم من الجهد الإعلامي الكبير الذي تقوم به وسائل الإعلام المختلفة عبر مجموعة من الأنشطة الإعلامية التي أسهمت في إعادة تشكيل وعي الجماهير، إضافة إلى دور وزارة الإعلام بمختلف قنواتها الإعلامية (المرئية والمسموعة والمقروءة) عبر بث ثقافة الاستهلاك في أفراد المجتمع، وتعزيزها من خلال الاهتمام بالإعلام الاقتصادي وجمهوره؛ إذ بات تأثير ثقافة الاستهلاك سلبيا على أفراد المجتمع خاصة على الجانب الاقتصادي والاجتماعي فأدت إلى انخفاض معدلات الادخار لدى كثير من الأفراد، وساعدت على تقليص مساهمات الأشخاص في المشروعات الاستثمارية والتنموية المختلفة، أيضا ساعدت ثقافة الاستهلاك على انخفاض الدخل المادي لكثير من الأسر، مما عجزت عن الوفاء بالتزاماتها المعيشية وأعبائها اليومية، ومع استمرار هذه السلوكيات السلبية التي حالت دون ترسيخ مبادئ ثقافة الاستهلاك المبنية على إحكام الاستهلاك، وتجويد الإنفاق على المستلزمات والحاجيات اليومية أصبحت كثير من الدول تعاني من تفشي بعض القضايا الاجتماعية مثل الجرائم لعدم اتباعهم أساليب الترشيد في الاستهلاك؛ إذ تشير الدراسات إلى أنه «في الدول الغنية يعد الاستهلاك نمط الحياة السائد حيث يعيش فقط 16% من سكان الأرض، فنسبة الأغنياء في العالم 16% من سكان الأرض واستهلاكهم يصل إلى 78% من الاستهلاك العالمي، وتتصدرهم الولايات المتحدة بنسبة 32% من الاستهلاك العالمي رغم أن تعدادهم لا يتجاوز 5% من سكان الأرض»، فيما ترى دراسات وبحوث أخرى أن الدول النامية تنظر للدول المتقدمة كمثال على ثقافة الاستهلاك الجيدة، وتسعى أن تحذو حذوها مع تبنّي بعض ممارساتها في نمط الاستهلاك والمعيشة، إلا أن التحذيرات تشير إلى أنه مع استمرار انتهاج ثقافة الاستهلاك في الدول المتقدمة ورغبة الدول النامية لوضع الدول المتقدمة كنموذج لثقافة الاستهلاك فإن البشر بحاجة إلى كميات ضخمة من الموارد الطبيعية لتلبية احتياجات السكان.

إن ما يربك ترسيخ مبادئ ثقافة الاستهلاك الصحيحة لدى أفراد المجتمع هو كثرة المصطلحات والمفاهيم المرتبطة بها التي لطالما أوجدت نوعا من التناقض في سلوك المستهلك وصعوبة التفريق بين ماذا يريد وماذا يحتاج عند التسوّق؛ فتارة تقوده العاطفة لإرضاء رغباته الشخصية، وتارة تأطر خياراته ورغباته محفظته الادخارية، ولهذا لا بد من إيجاد نموذج فاعل لتفعيل تطبيقات الاقتصاد السلوكي - أحد أنواع الاقتصادات التي تسعى دول العالم لتعزيزه وهو دراسة سيكولوجية لكونه تحليلا لعمليات صنع القرار التي يتخذها الأفراد والمؤسسات - على الرغم من عدم اقتناع الكثير من الأشخاص بهذا النوع الحديث من الاقتصاد إلا أن له دورا في اتخاذ قرارات مختلفة دون الأخذ في الحسبان العوامل الاقتصادية المبنية على تحريك العاطفة التي ربما تؤدي إلى نتائج عكسية وليست في صالح المستهلك، مما يشير إلى أن الشخص ليس عقلانيا وغير مؤهل لاتخاذ قرارات صائبة في ظروف مختلفة، ومع تعرّض العالم لأزمات اقتصادية بين فترة وأخرى أصبح العمل بتطبيقات الاقتصاد السلوكي أمرا في بالغ الأهمية؛ إذ إن المؤشرات المرتبطة بهذا النوع من الاقتصاد توضّح جدوى استخدامه في تصميم السياسات العامة أو قراراتها عبر القدرة على توجيه الأشخاص نحو الخيار الأفضل والمناسب لهم، فمثلا يمكن أن تقوم الحكومات بتوجيه الأشخاص لتصحيح خياراتهم عبر وضع الخيار الأفضل لهم كخيار افتراضي بالاستفادة من سلوك الأشخاص في عدم رغبتهم بتغيير قرارهم أو خيارهم الحالي، ومع اقتراب شهر رمضان الفضيل وشراهة المستهلكين للتسوّق دون وضع معايير محددة أو تحديد ميزانية معيّنة لمعرفة مدى احتياج الأشخاص للسلع الاستهلاكية من عدمه أصبح من الضروري أن يملك الفرد درجة كافية من الوعي بعدم الانقياد وراء الإعلانات الترويجية التي تساعد على الاستهلاك المفرط مهما كانت المغريات بانخفاض أسعارها، وفي رأيي نحن بحاجة إلى إيجاد منهج علمي وعملي؛ لضمان نشر ثقافة الترشيد في الاستهلاك، والاعتدال في الإنفاق تطبيقا لما ورد في القرآن الكريم» والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما» فهم ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة ولا بخلاء على أنفسهم وأهليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم بل يكونون عادلين وخير الأمور أوسطها، أيضا من الجيد أن تترسّخ لدى أفراد المجتمع ثقافة التركيز على الحاجيات الضرورية، وتأجيل الكماليات والسلع غير الضرورية؛ لضمان توفير متطلباته اليومية من السلع والخدمات، فالتركيز على الجوانب التي تعزز استدامة الموارد يجنّب الفرد الدخول في كثير من المتاهات المستقبلية، وهنا ينبغي التركيز على موضوع الاستدانة أو الاقتراض فلا يجب على الأشخاص اللجوء للحصول على قروض مالية بغرض شراء الكماليات غير الضرورية كون أن اقتناءها لا يساعد على استدامة الوضع المالي للأسر، ولا يشجع على الاستهلاك المحكم، ومن الحلول المناسبة والفاعلة لضبط الاستهلاك غير المحكم أو المبني على العاطفة هو تفعيل تطبيقات الاقتصاد التشاركي - نظام اقتصادي مستدام يقوم على مشاركة الأصول البشرية والمادية-؛ ويسمح هذا النوع من الاقتصاد للأشخاص باستئجار أو استعارة السلع والخدمات بدلا من إنفاق مبالغ باهظة لشرائها أي مشاركتها مع الأشخاص؛ للاستفادة منها لتكون المنفعة تشاركية بين صاحب الأصل وبين المستفيد منه خاصة عند امتلاك الأصول مثل المنازل والمركبات.

ختاما، إن أزماتنا الاقتصادية ربما سببها ممارسات غير صحية ناتجة عن سلوكيات خاطئة، وذلك لأسباب عدة أبرزها الرغبة في إشباع الجانب العاطفي والنفسي، مما ينتهي بنا الأمر إلى العجز المادي عن توفير الحاجيات الأساسية، ولذلك لا بد من ضبط سلوك الاستهلاك عبر التحذير من عواقب ونتائج الاستهلاك العشوائي -الاستهلاك المبني على رغبة آنية-، ومع قيام وسائل الإعلام بمختلف أنواعها بدور ملموس وجهد كبير في التوعية بضرورة الترشيد في الاستهلاك؛ لحماية أفراد المجتمع من إرهاصات الأزمات الاقتصادية إلا أن الإعلانات الترويجية المغرية للمشاهير في شبكات التواصل الاجتماعي أصبحت لا تساعد على تعزيز التوسّط في الاستهلاك وهذا أحد الأسباب الحقيقية في أزماتنا الاقتصادية.