ثَغْر الفُرْقَة في معركة التأثير

03 ديسمبر 2023
03 ديسمبر 2023

من الواجب الحذر من أن يقع المرء في المهالك جرّاء انسياقه الكامل خلف انفعال عاطفي عابر، كما أن ذلك الانسياق قد يكلفه الكثير، خصوصا إن تمثَّل جل ذلك الكثير في الثقة والمصداقية، ولعل الحديث يأخذنا ضمن هذا السياق إلى القضية العالمية المعاصرة (قضية فلسطين) وتداعياتها من ردود أفعال الناس حول العالم عموما، وفي العالم العربي على وجه الخصوص، ولعل المقاطعة الاقتصادية أقوى ردة فعل تبناها كثير من الأفراد حول العالم، كما تبنتها جمعيات إنسانية وحقوقية واجتماعية؛ كلها تحاول تشكيل جبهة ضغط شعبية على داعمي الاحتلال الإسرائيلي من دول داعمة للعدوان وشركات عالمية كبرى.

إيجابيات فعل المقاطعة كثيرة مبدأها توجيه رسالة مباشرة للشركات الداعمة مفادها أن لدى المستهلك من الوعي ما يجعله يعلن بصوت جماعي أننا لن نسهم في ترويج قتل الأبرياء وتهجيرهم من أرضهم لإحلال المشاريع الاقتصادية العالمية محل وطن كامل بإنسانه وتاريخه وذاكرته، كما أن المقاطعة وسيلة ناجعة لتقييد العادات الاستهلاكية غير الصحية واستبدالها بأخرى أكثر صحية وأقل تكلفة، وانتهاء بدعم المنتجات الوطنية والعربية والإسلامية -في دائرة أوسع -إسهاما في تنمية الاقتصاد ودفعا بعجلة التنمية، على أن يكون كل ذلك دون استغلال أو احتكار إذ يحتكم سوق العرض والطلب حينها إلى وعي المستهلك وقدرته بقوة سلطة الوعي من فرض العقاب ذاته كذلك على المستهلك المحلي الجشع الذي يشبه في جشعه واستغلاله تماما كبرى الشركات المستغلة للإنسان والمستنزفة طاقاته.

لكن الوعي ذاته ينبغي أن يسلمنا لقناعات أخرى تُبنى أولاها على تقبل الاختلاف، واحترام الرأي الآخر الذي قد يخالف سلوك المقاطعة الاقتصادية إلى تصالح، بل قد يتجاوز التصالح إلى استغلال اللحظة لأسباب شخصية فكرية، أو أسباب شخصية مادية، أو حتى لاختياره المضي عكس التيار دون حاجة لتبرير ذلك بأي منطق، وما مرت قضية رأي محلي أو عالمي تاريخيا دون أن تخلق هذا التباين في الرأي وهذا الاختلاف مهما بلغت حدته أو تشكّلت وتبدّلت دوائرُ طرحه، وفي هذا السياق لا ينبغي نسيان دروس التاريخ في أن التشتيت وزرع الفرقة هي أقدم أدوات المتنفذين لإضعاف الرأي العام حول قضية يؤمن بها الأغلبية ويتحدون لنصرتها، لذلك فمن غير الحكمة الوقوع في شَرَك الفُرَقة والتشتيت كلَّ مرة، لا سيما إن تجاوزت هذه القضية حدودها المحلية والإقليمية إلى بلوغ تبنيها واعتناقها من قبل الشعوب حول العالم؛ إما بسبب من هذا الانفتاح المعلوماتي الذي نعاصر ونعيش، أو لأسباب تتعلق بتشابه الظروف التاريخية واستعادة الكثير من الشعوب المقهورة مظالمِها عبر نصرة المظلوم العصري على مسرح الواقع اليوم، والذي يمثله الفلسطيني الأعزل الذي يدافع عن تشبثه بأرضه في أسوأ الظروف المتاحة من حصار وقهر وتهجير يومي، لم يحتج الرأي العالمي حينها إلا تعزيز المشهد الدموي بهجمات دولية متصلة ساعية لتهجير السكان الأصليين، لتتابع شركات سرقة موارد الأمم عملها على جسر من الدماء وأرض من الصرخات في ذاكرة جمعية مكلومة.

حين يحدث ذلك الانتصار الشعبي العالمي لهذه القضية ولهذا الرأي لا ينبغي للشعوب حينها التناحر بينها، والانشغال بحروب رأي وهمية مصنوعة بعيدا عن جوهر القضية الأم، ومنها ما نتابع جميعا بين أبناء البلاد الواحدة، أو بين مواطني بلدان مختلفة من العالم العربي في تراشق يومي بين مؤيد ومعارض، وإلصاق التهم والسباب والشتائم بالمختلف فيما لا يتجاوز بأي حال من الأحوال مبدأ إهدار الطاقة فيما لا جدوى منه، إضافة إلى استثارة العداوة والبغضاء بين الجميع، ولا أحسب أن هذا الأوان هو أوان ذلك، بل نحن مع كل دروس غزّة التي مرت بنا أحوج إلى المحبة منّا إلى البغضاء، وإلى الوحدة منّا إلى الفرقة، وليتنا نعقل جميعا فندرك حسن التركيز على جوهر قضيتنا الأم دون خلق أية معركة جانبية لن تصل بنا إلا إلى شر لا نرجوه، وجنوح عن المسار لا تتطلبه المرحلة، وما نهدر من طاقات هنا يجدر بنا خزنها لتغذية فكرتنا الرئيسة في المقاطعة طويلة المدى كرد فعل قوي فاعل مؤثر ينبغي توظيفه وتوجيهه وتفعيل أدواته دون أن يكون مجرد انفعال عاطفي عابر قد لا تتجاوز مدته أسابيع أو حتى شهورا من العزيمة والإصرار، ولا أحسبنا سنصل لأي أثر من أي فعل إن كانت ردود أفعالنا محض استثارات عاطفية وحسب، فالصبر الصبر على صنع الأثر والمحبة المحبة بيننا أوان التحديات، والشدة الشدة على تجار الحروب مصادري قوت الشعوب.

حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية