تنمية المجتمع المدني واستدامته

17 يوليو 2021
17 يوليو 2021

يركز تقرير اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) بشأن (دور المجتمع المدني في المنطقة العربية بتنفيذ خطة التنمية المستدامة لعام 2030)، على الشراكة التنموية القائمة بين المجتمع المدني ومؤسسات الدولة (الحكومية والخاصة) من أجل تنفيذ خطة التنمية المستدامة. فإذا كانت هذه الخطة تعتمد على «التكامل، والملكية والقيادة الوطنية، والشمولية والتضمين»

بحسب التقرير -، فإن المجتمع المدني يقوم بأدوار أساسية في دعم العملية التنموية من أجل تحقيق المصالح الوطنية في مراحل التنمية المختلفة بدءا من المبادرات وحتى الرصد والتقييم.

إن المجتمع المدني بجمعياته وهيئاته المتعددة يتحمل المسؤولية الوطنية أمام مجتمعه، حيث تقع على عاتقه مجموعة من الأدوار يجملها تقرير الإسكوا في «الدور التحويلي، والتأثير في السياسات وصنع القرار، والدور التنفيذي والخدماتي، والدعوة والتعبئة، والرصد والتقييم والمساءلة»، وهذه الأدوار تجعل منه قوة مجتمعية تسهم مباشرة في دفع مسيرة التنمية، فهي شريك أساسي؛ ملتزم، ومسؤول. ولهذا فإن الدول تدفع بالمجتمع المدني من خلال أهدافه إلى أن يكون متمكِّنا من القيام بدوره الفاعل المؤثر، والقادر على تنفيذ مهامه الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.

ولأن سلطنة عمان من الدول التي اعتنت بتمكين المجتمع المدني منذ سبعينات القرن الماضي من خلال تأسيس جمعيات المرأة والطفل من ناحية، والجمعيات المهنية من ناحية أخرى؛ وقد برز هذا التمكين في العقدين الماضيين من خلال تلك السياسات والتشريعات الناظمة لمؤسسات المجتمع المدني، وإشراكه في التخطيط التنموي والتنفيذ، إضافة إلى تعزيز دوره في الأنشطة المجتمعية ودعم الإبداع وتمكين الشباب وغير ذلك من تلك الأدوار التي يتولاها المجتمع المدني في عُمان اليوم.

لقد تم إشهار العديد من جمعيات المجتمع المدني المهنية بالسلطنة في كافة القطاعات (الصحية، والاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية)؛ حيث أسهمت جميعها في تطوير الحِراك التنموي خلال العقود المنصرمة، فقدمت العديد من البرامج الإنمائية في مجالاتها بما يحقق الأهداف الوطنية، لذا فإن المرحلة التي تمر بها الدولة اليوم، وتطلعاتها المستقبلية للعقود القادمة، تعظِّم دور هذه الجمعيات، وتقدمها بوصفها شريكا أساسيا في منظومة التنمية؛ بما تملكه من قدرات بشرية متخصصة ومدربة، لتكوِّن القدرة الإنمائية التي يستند إليها ركنا الشراكة المجتمعية (الحكومي والخاص).

إن جمعيات المجتمع المدني في عُمان تقوم بأدوار فاعلة من خلال المشاركة، والمساهمة المنتظمة في المبادرات الوطنية؛ ولقد أسهمت السياسات الوطنية في تمكين هذه الجمعيات وإتاحة الفرص لها للمشاركات المحلية والإقليمية والدولية بما يحقق الأهداف التنموية للدولة، وبالتالي يُسهم في بناء الخبرات الوطنية وتوفير البيئة المناسبة للتدريب، بما يُعزز فرص المشاركة المجتمعية ويُطوِّر وسائلها وأنماطها.

والحق أن السلطنة قامت بجهود عدة في تمكين هذه الجمعيات ليس على مستوى السياسات والتشريعات والأنظمة وحسب، بل أيضا على مستوى الشراكة التنموية؛ حيث نجد أنها شريكة بالمبادرات التنموية في مختلف القطاعات ، بل وحتى في التقارير الإنمائية. الأمر الذي جعل منها « أي الجمعيات » قوة تنموية ذات تأثير بالغ في تحقيق الأهداف الوطنية التي تسعى إليها الدولة. الأمر الذي دفع بها إلى تطوير منظومتها الداخلية من خلال الشراكات العلمية والمهنية الخارجية من أجل تنمية منتسبيها وإكسابهم الخبرات اللازمة ليكونوا أعضاء فاعلين في المجتمع.

ولأن السلطنة قد بدأت عهدا جديدا من التنمية يرتكز على رؤية عمان 2040، ويعتمد على التخصصية، وتركيز الأدوار والمهام وفق الاختصاصات المهنية، فإن الدعوة إلى إحالة الإشراف على جمعيات المجتمع المدني المهنية إلى المؤسسات المختصة قد حان وقتها؛ فعلى الرغم من اعتبارها جمعيات مجتمعية مرتبطة بأفراد المجتمع، إلا أنها جمعيات مهنية تخصصية، ذات أهداف وأبعاد مرتبطة بتطلعات التخصص من ناحية، وبتطلعات القطاع ورؤاه من ناحية أخرى. فالجمعيات المرتبطة بالتخصصات الطبية، أو الهندسية، أو الثقافية أو غير ذلك، تبني شراكاتها مع القطاع الذي تنتمي إليه لا مع القطاع الاجتماعي الذي لا يستطيع استيعاب قدراتها وإمكاناتها، وبالتالي احتياجاتها.

إن هذه الجمعيات ترتبط من الناحية المهنية بالمؤسسات المختصة، وتجمع بينها قواسم عدة؛ ذلك لأن أدوارها مجتمعية نابعة من المهنة ذاتها، فهي جسر بين تحقيق أهداف التنمية في القطاع وبين المجتمع، باعتبارها الأقرب إليه والأسرع. ولهذا سنجد أن العقد الاجتماعي الذي تُبرمه الجمعيات المهنية مع المجتمع قائم على التخصصية. وبالتالي فإن عليها من ناحية أخرى إبرام عقد آخر يتصف بـ (المهنية) مع الجهات المختصة في القطاع، الأمر الذي سيجعلها ملتزمة بأهدافه وتطلعاته. ولهذا فإن إحالة الإشراف على الجمعيات المهنية إلى القطاعات المتخصصة سوف يُسهم في تحقيق الأهداف المشتركة، ويقلل من الازدواجية في عمل الجمعيات.

ولأن الثقافة هي الركن الرابع من أركان التنمية المستدامة، فإن قوة المجتمع المدني الثقافي يعكس قدرة الدولة على تمكين هذا القطاع والمشاركة في تحقيق أهدافه؛ فجمعيات المجتمع المدني الثقافية من أوائل جمعيات السلطنة بل وأكثرها عددا؛ حيث بدأت بالجمعية التاريخية العمانية التي تأسست في الخامس من فبراير 1972م، وأُشهرت بعدها جمعيات عدة كالجمعية العمانية للسينما والمسرح، والجمعية العمانية للكتاب والأدباء، وجمعية الصحفيين العمانية، والجمعية العمانية للمكتبات، والجمعية الفلكية العمانية، والجمعية العمانية للملكية الفكرية وغيرها، وكلها تهدف إلى تحقيق الأهداف التنموية المنبثقة من الرؤى الوطنية الخاصة بقطاع الثقافة. وعلى الرغم من الجهود التي تبذلها هذه الجمعيات عبر إعداد البرامج والخطط وتهيئة البيئة المناسبة للمتخصصين والمبدعين باعتبارها مراكز إبداع، إلا أن الازدواجية التخصصية في الإشراف والتبعية المهنية تحد في الكثير من الأحيان من فاعلة عملها وإنتاجها، إضافة إلى عدم استثمار الجهود الإبداعية، وقلة الشراكات المهنية الفاعلة.

إن جمعيات المجتمع المدني في قطاع الثقافة تُعد ركنا أساسيا في التنمية الثقافية، فقد أسهمت وما زالت في تأسيس الوعي الجمعي بأهمية الثقافة في التنمية الوطنية، وقدرتها على تحقيق التطلعات بالشراكة مع القطاعات الحكومية والخاصة، ولهذا فإن الدور الذي ستقدمه خلال المرحلة المقبلة من عُمر النهضة الحديثة، عليه أن يعتمد على التخطيط التنفيذي، الذي يقوم على تقييم الواقع وتحديد التحديات، ثم تعيين الأهداف الطموحة التي ينشدها القطاع في كل مجال ثقافي، وأن يعتمد على الاستثمار في الثقافة باعتباره أساسا في تحقيق أهدافه؛ ذلك لأن انتظار الدعم المتوفر غالبا ما يؤخر تحقيق هذه الأهداف أو يؤجلها، في حين أن هذا القطاع يمتلك قدرات بشرية إبداعية متعددة، عليها أن تستجمع الجهود وتؤسس شراكات قادرة على الاستثمار في الصناعات الإبداعية، الأمر الذي يدفعها « أي الجمعيات » إلى عقد شراكات مجتمعية مع قطاع الأعمال والصناعات لضمان القدرة التنافسية من ناحية، ومع شركاء الثقافة في المؤسسات الحكومية لضمان القدرة التخطيطية والتشريعية من ناحية أخرى، مما يسهم في تحقيق الأهداف المشتركة.

إن الجمعيات المهنية يُنظر إليها بوصفها رأس مال بشريا، ولهذا فإنه إذا ما استطاعت الدولة تحويلها إلى مورد مستدام عن طريق التمكين وبناء منظومة من الشراكات الفاعلة بينها وبين القطاعات المعنية، إضافة إلى تسهيل السياسات والتشريعات بما يضمن قدرة هذه الجمعيات على العمل ضمن منظومة حقوق الأفراد وواجباتهم، فإنها سوف تقودها إلى التطور والنماء والقدرة على المساهمة الفاعلة في التنمية الوطنية.