تنظيم الإعلام في التجربة العربية

25 يناير 2022
25 يناير 2022

تعد علاقة الصحافة بالسلطة السياسية (الحكومات) مقدمة ونتيجة في الوقت ذاته للحديث عن تنظيم العمل الإعلامي. وتُعد هذه العلاقة محددا رئيسا من محددات حرية الصحافة، ومقياسا أوليا للحكم بوجود أو عدم وجود هذه الحرية في بلد ما.

وإذا كانت حرية التعبير والصحافة ما زالت تدخل في نطاق القضايا العالمية لأكثر من قرن، فإن أغلبية الدراسات تعاملت معها من منطلق المدخل الذي يركز على العلاقات المتبادلة بين الأنظمة السياسية وبين وسائل الإعلام، ومدى تدخل هذه الأنظمة في تنظيم عمل الإعلاميين ووسائل الإعلام.

والواقع أن المجتمعات الإنسانية باختلاف درجات تقدمها تحرص على تنظيم العمل الإعلامي كغيره من أنشطة المجتمع من خلال نوعين من التنظيم، الأول هو التنظيم القانوني المتمثل في التشريعات الخاصة بالإعلام والتشريعات العامة ذات العلاقة به، والثاني هو التنظيم الذاتي الذي يسند مهمة التنظيم وتحديد الحقوق والواجبات والمسؤوليات إلى الإعلاميين وتجمعاتهم المهنية. وتجمع غالبية دول العالم بين النوعين من التنظيم مع غلبة النوع الأول (التنظيم القانوني) الملزم.

ويكفل التنظيم القانوني للإعلام التوازن بين حق الإعلاميين والمنصات الإعلامية في ممارسته حرية الإعلام وبين القيود التنظيمية التي ترى السلطة السياسية فرضها لتنظيم الممارسة الإعلامية وحفظ حقوق أفراد المجتمع وحرياتهم الأخرى.

ويشمل التنظيم القانوني النصوص الدستورية التي تتضمن إقرار حرية الصحافة والحريات المرتبطة بها مثل حريات الرأي والتعبير والطباعة والنشر، وضوابط تقييد هذه الحرية في أزمنة معينة مثل زمن الحرب وزمن الطوارئ، بالإضافة إلي القوانين المتعلقة بالمطبوعات والنشر ووسائل الإعلام بصفة عامة، والتي تحدد الإجراءات الإدارية والالتزامات القانونية وتنظم الأنشطة الصحفية، وحق الحكومات في مراقبة وسائل الإعلام في ظروف معينة، بالإضافة إلى قوانين النقابات والاتحادات والجمعيات المهنية الإعلامية، إلى جانب القوانين العامة والخاصة ذات العلاقة بالعمل الإعلامي، مثل قانون العقوبات (الجزاء)، وقوانين التجارة، والشركات، والغرف التجارية، وقوانين المعلومات.. وغيرها.

أما التنظيم الذاتي فيشمل مواثيق الشرف الصحفي والإعلامي بما تتضمنه من مبادئ عامة وحقوق وواجبات الإعلاميين. وتنقسم هذه المواثيق إلى نوعين، الأول إلزامي، وهي تلك التي تتضمن بعض أنواع العقاب على ما يخالفون نصوصها من الإعلاميين، والثاني اختياري يخضع لرغبة الإعلاميين في تطبيقها على أنفسهم.

واقع الحال أن التشريع في مجال الإعلام والصحافة يمثل أحد أهم المرتكزات التي يقوم على أساسها النظام الإعلامي في الدولة، كما يمثل في المقابل أحد أهم المحددات والمقاييس التي يتم على أساسها تقييم نظرة المجتمع للإعلام وإيمانه بحريته. وتعد النصوص الدستورية الخاصة بالإعلام والقوانين المنظمة له أيا كان مسماها، بالإضافة إلى الممارسات الإعلامية الفعلية وطبيعة العلاقة بين وسائل الإعلام وبين السلطة التنفيذية ممثلة في الحكومة معايير جوهرية تقاس بها حرية الإعلام في الدولة، وتصنف على أساسها في تقارير المنظمات والهيئات والمحافل الدولية المعنية بحرية الإعلام في مختلف دول العالم.

في ضوء ذلك يبدو من الضروري للصحفيين والإعلاميين والمسؤولين عن الإعلام بوجه عام في دولنا العربية أن يكونوا على دراية جيدة بتاريخ وواقع تقنين العمل الإعلامي في التجربة العربية حتى يمكنهم العمل على إصلاح ما يمكن إصلاحه في هذا التقنين سعيا إلي تحسين مراكز الدول في سلم حرية الصحافة في العالم.

والواقع أن التجربة العربية في تقنين العمل الإعلامي تعود إلى بداية معرفة العالم العربي بالصحافة على أيدي الفرنسيين في نهاية القرن الثامن عشر، الذين أصدروا صحيفتين باللغة الفرنسية كانتا موجهتين إلى جنود وعلماء الحملة الفرنسية على مصر، وتابعتين تبعية كاملة ومباشرة لقيادة الحملة.

ولعل الدرس الأول الذي تعلمه الحكام العرب من تجربة صحافة الحملة الفرنسية هو أن تكون الصحف وجميع منافذ التعبير في المجتمع تابعة للحاكم الفرد أو للنظام الحاكم تبعية مباشرة. ولذلك لم يكن من الغريب أن يُخضع محمد علي والي مصر بعد خروج الفرنسيين، أول مطبعة عربية استقدمها من أوروبا لسيطرته وإشرافه المباشرة، إدراكا لخطر ما يمكن أن تنشره على الناس، ولعل هذا ما دفعه أيضا إلى أن يصدر في عام 1827 أول صحيفة عربية «جورنال الخديوي»، التي تحولت في العام التالي إلى صحيفة «وقائع مصرية»، لتخدمه هو شخصيا في المقام الأول ثم العاملين في ديوانه بعد ذلك.

في السنوات التالية ومع انتشار الطباعة والصحافة في الدول العربية، شهد تقنين الصحافة في العالم العربي تجاذبات عديدة، خاصة بعد ظهور الصحافة الأهلية في مصر في ستينات القرن التاسع عشر. والتي أصدرها أفراد حازوا ثقة الحاكم. وقد أثر في هذا التقنين عوامل عدة أبرزها رغبة السلطة السياسية الوطنية في التحكم في الصحافة، ثم حاجة المحتل الأجنبي الإنجليزي أو الفرنسي في قمع الأصوات الوطنية المناهضة له، وما تبعه من قيام الحركات الوطنية التي استخدمت الصحافة كسلاح في نضالها من أجل التحرر، وما تلي ذلك من خروج المستعمر ونيل الدول استقلاها وقيام حكم وطني جديد فيها، استخدم هو الأخر كل وسائل التقييد المتاحة لحرمان معارضيه من التمتع بحرية الصحافة.

قبل الاحتلال الأجنبي سنت بعض الدول العربية مثل مصر قوانين للمطبوعات (قانون المطبوعات لعام 1881) الذي منح السلطة التنفيذية صلاحيات واسعة في مراقبة المطبوعات، والترخيص بإنشاء المطابع والصحف ومنع نقد الحكام. وفي ظل الاحتلال الأجنبي اختلفت أوضاع حرية الصحافة باختلاف المحتل. فقد كان الاحتلال الفرنسي في الجزائر وتونس والمغرب وسوريا ولبنان شديد القسوة على الصحافة والصحفيين كونه كان استعمارا استيطانيا في المقام الأول، بينما كان الاحتلال الإنجليزي في مصر والعراق وفلسطين أقل قسوة مع الصحافة الوطنية. ولذلك ازدهرت الصحافة الوطنية إلى حد ما في هذه الدول، خاصة بعد إعلان الاستقلال المنقوص لمصر في عام 1922 بصدور تصريح 28 فبراير وإعلان الدستور المصري في عام 1923 وقيام الحكم النيابي. ورغم ذلك عرفت الصحافة تقلبات شديدة في ظل الحكومات الوطنية تراوحت بين الازدهار والتمتع بالحرية الكاملة أثناء حكم حزب الأغلبية (حزب الوفد)، وبين التراجع والتقييد الشديد أثناء حكم أحزاب الأقلية، وفي فترة الحرب العالمية الثانية.

بحصول الدول العربية على استقلالها قامت الحكومات الوطنية بوضع أسس تقنين العمل الصحفي والإعلامي من خلال الدساتير الجديدة التي نصت صراحة على الحريات الأساسية للمواطنين مثل حرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة، إلا أنها أحاطت هذا النص بشرط يفرغه من محتواه، وهو أن تكون ممارسة هذه الحرية «في حدود القانون». ومن ثم جاءت القوانين الأخرى وعلى رأسها قوانين المطبوعات والنشر والصحافة وقوانين العقوبات لتجعل من النص الدستوري حبرا على ورق كما يقال.

ويمكن القول إن وسائل الإعلام في العالم العربي رغم التطور الذي شهدته ورغم التغيرات التكنولوجية التي مرت بها ما زالت أسيرة التجربة التاريخية ورؤية السلطة لها على أنها مهدد لوجودها واستمرارها. ما زالت تخضع للسلطة التنفيذية، ولا زال الإعلام العربي- باستثناءات قليلة- هو إعلام الصوت الواحد في الغالب. وباستثناءات قليلة أيضا ما زال الإعلام مملوكا للحكومات وما زالت حرية التعبير محدودة للغاية.

لقد كانت حرية الصحافة - المحدودة والمرتبطة بالنخب - في الفترة الاستعمارية، تخدم المستعمر في المقام الأول. إذ كانت تساعده في الإطاحة بالحكومات الوطنية غير المتعاونة معه والإتيان بحكومات موالية له. وبعد الاستقلال، اتجهت الحكومات الوطنية إلى احتكار السلطة، وبالتالي احتكار التعبير عن مصالح المجتمع واهتماماته. وكان عليها أن تخمد أي صوت معارض يحاول أن يقدم تصوراً مخالفاً لاهتمامات ومصالح المجتمع، باعتبار أنها الوحيدة المؤهلة والقادرة على تحديد هذه المصالح والتعبير عنها. ولذلك تنظر الصحافة إلى نفسها كمرآة للحكومة، معتنقة مفهوم أن الأفضل للشعوب هو ما تقرره الحكومات، وهو ما يجب عليها أن تنقله للناس دون أي نقد.

* حسني نصر كاتب مصري وأستاذ في قسم الإعلام بجامعة السلطان قابوس