تكريس نهج الممارسة البرلمانية في سلطنة عمان

05 يونيو 2023
05 يونيو 2023

يلحظ المتأمل في التجربة البرلمانية العُمانية أنها شبّت عن الطوق، وباتت تطرح ثمارًا يانعة سواء على صعيد تجويد الممارسة أو لجهة مخرجاتها من تشريعات ودراسات تسهم في تنظيم مختلف أوجه الحياة، وتعزز خطى التنمية الوثابة التي تنتظم بلادنا من أقصاها إلى أقصاها.

لن نجنح للمبالغة ونخلع على التجربة البرلمانية العمانية صفة الكمال، لأنها -شأنها في ذلك شأن أي جهد بشري- عُرضة لأن تعتريها عوامل النقص، وتشوب أداءها بعض الهنات، إلا أنه -ومن واقع المعايشة- نستطيع القول إن المقارنة مع التجارب البرلمانية في محيطنا الخليجي والعربي، تنصف التجربة البرلمانية العُمانية وترجح كفتها لكونها أكثر نضجًا وأعمق طرحًا وتميل للموضوعية في التعاطي مع الموضوعات التي تعرض عليها أو تتطرق إليها.

ومن المعروف بداهة، أن الممارسة البرلمانية تكمن فيها قوة ذاتية تدفع بها إلى مدارات أرحب كلما طال أمد الممارسة، وبالتالي تتطور مخرجاتها لتصبح أكثر تجاوبًا مع تطلعات المجتمع، وأشد حرصًا على تلبية طموحاته.

وأحسب أن الممارسة البرلمانية في مجلس عمان سائرة على الطريق الصحيح، وتعيش حالة تطور مستمر، فالمؤسسة البرلمانية العمانية تحرص على النأي بنفسها عن أساليب الإثارة الفجة التي تسود في أروقة مجالس برلمانية في العديد من دول العالم، التي وكما شهدنا مرارًا تصل فيها المهاترات حد التقاذف بالأحذية وقوارير المياه.!

والشاهد أن الممارسة البرلمانية في سلطنة عُمان استصحبت الكثير من سمت الشخصية العُمانية التي تميل إلى الهدوء واحترام وجهات النظر المغايرة والبُعد عن التعصب، والنفور من المماحكات والجدل العقيم.

استفادت الممارسة البرلمانية في سلطنة عُمان كذلك؛ من الإرث الباذخ لتجارب الشورى المجتمعية التي اشتهر بها المجتمع العُماني وتتبدى في أوضح صورها في السبلة ومجالس الحل والعقد بمختلف صورها والتي تتوزع على امتداد وطننا الغالي، وترسْخ وجودها عبر تعاقب الحقب واختلاف الأزمنة لتشكل منصات شوروية شعبية فاعلة، ولتمثل برلمانات مفتوحة يتم فيها التداول حول مختلف القضايا المجتمعية للوصول إلى حلول متواضع على القبول بها والاحتكام إليها وتكتسب الشرعية بالتراضي.

لقد شكّلت هذه الممارسات الشوروية مخزونا ثرًيا، وقوة دافعة للتجربة البرلمانية العُمانية لتنطلق في فضاءات الفاعلية بتدرج ملموس، لتحقق -وفي فترة زمنية وجيزة- نجاحات مشهودة، وترشحها للمزيد من الإنجازات في المستقبل من خلال تعزيز الممارسة الراشدة، ولتدعيم دور المؤسسة البرلمانية في توطيد أركان دولة المؤسسات كضلع فاعل ضمن ثالوث أضلاع السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية.

ولأن الممارسة العملية هي المحك في إصدار الأحكام بنجاح مؤسسة ما في النهوض بالمهام الموكولة إليها، فقد شهدنا أدوارًا متعاظمة لمجلسي الدولة والشورى في إثراء الجوانب التشريعية وفي مجالات الدراسات والبحوث منذ إنشائهما قبل عقود من الزمن ووفق الرؤية الحكيمة للمغفور له -بإذن الله- السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور -طيب الله ثراه.

ويكفي للتدليل على المنجز التشريعي، والإسهام في المسار التنموي، إلقاء نظرة على عدد التشريعات وكمّ الدراسات التي أنجزها مجلس عُمان ووجدت طريقها إلى حيز التطبيق الفعلي لتسهم في تعزيز مسيرة التنمية الشاملة، وتطوير خططها الطموحة لتواكب تطلعات المواطنين على امتداد الوطن العزيز.

لقد جاءت الجلسة المشتركة لمجلسي الدولة والشورى في أواخر شهر مايو المنصرم لمناقشة مواد التباين بين المجلسين حيال مشروعات قانون «العمل» و«الحماية الاجتماعية» و«البصمات الحيوية»، تكريسًا للنهج التشريعي الفعّال الذي يتبناه مجلس عُمان حرصًا على إحكام مواد مشروعات القوانين المعروضة عليه، حتى يكون مردودها على الوطن والمواطن في قامة التطلعات، وذلك إعمالًا لقانون مجلس عُمان الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (٧/ ٢٠٢١) في مادته الـ50 والتي تنص على: «تُحال مشروعات القوانين التي لها صفة الاستعجال من مجلس الوزراء إلى مجلس الشورى لإقرارها أو تعديلها خلال شهر على الأكثر من تاريخ الإحالة إليه، ثم إحالته إلى مجلس الدولة لإقراره أو تعديله خلال شهر على الأكثر من تاريخ الإحالة إليه.

فإذا اختلف المجلسان بشأن المشروع، يجوز لهما تشكيل لجنة مشتركة لبحث أوجه الاختلاف، وترفع اللجنة تقريرها إلى المجلسين لمناقشته في جلسة مشتركة برئاسة رئيس مجلس الدولة وبدعوة منه، ثم التصويت على المشروع في الجلسة ذاتها، وتصدر القرارات بالأغلبية المطلقة للأعضاء الحاضرين، وفي جميع الأحوال على رئيس مجلس الدولة رفع المشروع إلى السلطان مشفوعا برأي المجلسين».

إن الجلسة المشتركة لمجلسي الدولة والشورى شكّلت -وبإجماع المراقبين- نقلة نوعية على صعيد التنسيق والتناغم وحسن الإدارة بين جناحي مجلس عمان، وتطورًا ملموسًا لجهة ممارسة المجلس للصلاحيات التي كفلها له النظام الأساسي للدولة.

وقد سادت أعمال الجلسة الموضوعية التي تبدت في نقاشات ومداولات أعضاء المجلسين والذين أتيحت لهم الفرصة كاملة للتعبير عن آرائهم حول مشروعات هذه القوانين الحيوية ذات المساس المباشر بأمن المواطن ورفاهيته، حيث اتسمت آراء الأعضاء بالتجرد والموضوعية واضعين نصب أعينهم مصلحة الوطن التي تسمو فوق ما عداها من مصالح.

ويبقى القول إنه يعوّل الكثير على مجلس عُمان بشقيه «مجلس الدولة ومجلس الشورى» في المستقبل، خاصة ونحن على أعتاب فترة جديدة من عمر المجلسين (الثامنة لمجلس الدولة، والعاشرة بالنسبة لمجلس الشورى) حيث ينتظر من المجلسين المزيد من العمل لتفعيل أدوارهما التشريعية وأدواتهما البرلمانية من أجل مواكبة الخطى المتسارعة لنهضة عمان المتجددة التي يقودها حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق - حفظه الله ورعاه - من أجل مستقبل أكثر إشراقًا لعُمان المجد وشعبها الأبيّ.

سالم بن تمان العمري كاتب عُماني