تطوير العلوم الاجتماعية في الجامعات العربية

19 سبتمبر 2023
19 سبتمبر 2023

من المعلوم أن العلوم الاجتماعية Social Sciences لا تعني علم الاجتماع Sociology؛ لأن علم الاجتماع مهما تعددت فروعه، يظل في النهاية واحدا من العلوم التي تُعنى بدراسة الظواهر الإنسانية المتعلقة بالاجتماع البشري والعمران (إذا استخدمنا لغة ابن خلدون القديمة)؛ فالعلوم الاجتماعية تشمل أيضا علوم التاريخ والسياسة والقانون والأدب، إلخ. أما الفلسفة فليست علما من بين هذه العلوم، بل هي الأساس النظري والمعرفي الذي ينبغي أن تتأسس عليه. ومن المعلوم أيضًا أن العلوم الإنسانية التي تُسمى أيضا في التقاليد العلمية بالعلوم الاجتماعية قد مرت بتطور كبير في العالم الغربي بعد الثورة التي أحدثها هوسرل، والتي طالبت بإعادة النظر في منهجية البحث في هذه العلوم، وذلك من خلال كتابه الشهير «أزمة العلوم الأوروبية»، وهو الكتاب الذي نبه فيه إلى أن منهجية البحث المعمول بها في العلوم الطبيعية قد عزلت الطبيعة عن الإنسان، بل حولت الإنسان نفسه إلى طبيعة، أي إلى موضوع طبيعي يُدرَس بطريقة تجريبية خالصة! وإذا كانت العلوم الأوروبية قد سعت إلى تجاوز أزمتها منذ ذلك الحين؛ فإننا في عالمنا العربي لا نزال واقعين في شراك هذه الأزمة من خلال تصورات تقليدية للعلوم الإنسانية باتت عتيقة بالية، وغير مواكبة للتطور الحادث في هذه العلوم.

وفيما يلي يمكن الإشارة إلى أهم التوجهات المعاصرة التي ينبغي الالتزام بها في هذه العلوم:

التأكيد على التداخل المعرفي بين مجالات البحث، لا فحسب بين العلوم الإنسانية بعضها ببعض، وإنما أيضًا بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية نفسها؛ وهو ما يتبين لنا بوضوح من خلال علوم مثل: علم أخلاقيات الطب Medical Ethics، وعلم أنسنة الطب Humanization of Medicine، وعلم أخلاقيات البيئة Environmental Ethics، وعلم جماليات البيئة Environmental Aesthetics، إلخ.

إذا كان هذا التداخل قد أصبح أمرا واقعا بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية، فما بالنا بالتداخل بين العلوم الإنسانية التي تدرس ظواهر لها طبيعة متشابهة. ومع ذلك فإننا نجد الأقسام العلمية في كليات الآداب وغيرها من الكليات التي تدرس الظواهر الإنسانية- نجد أن هذه الأقسام تبدو منعزلة بعضها عن بعض، وكأنها تتناول ظواهر سرية خاصة مقصورة على أصحابها، من دون أن يدري أصحابها أن كل تخصص يتقاطع بالضرورة مع تخصصات أخرى، بحيث يمتد أفقه خارج حدوده لضيقة.

آفة التخصصات في العلوم الإنسانية في عالمنا العربي بوجه خاص هو إهمالها للأسس الفلسفية التي تستند إليها، وهي بذلك تتجاهل أن كل تطور جرى ويجري في العلوم الإنسانية قد بدأ من نظريات ومناهج البحث الفلسفي. ولذلك فإن هذه النظريات والمناهج يجب أن تشكل أساسًا ضروريًّا في هذه التخصصات التي تجري فيها البحوث الميدانية بطريقة تجريبية وإحصائية من دون معرفة الباحث بماهية الظواهر الإنسانية التي يتخذها موضوعًا لبحثه. وعلى هذا، فإنه يتعين على العلوم الإنسانية أن تدرج ضمن مباحثها الأساسية اتجاهات ومناهج البحث التي امتدت من الفلسفة إلى سائر هذه العلوم، وعلى رأسها مناهج البحث الكيفي Qualitative Methods، وذلك من قبيل: الفينومينولوجيا (أو الظاهراتية) Phenomenology، والتأويلية Hermeneutics، إلخ. (ولقد سبق أن تناولت هذا التوجه بالتفصيل في دراسة بعنوان: «محنة الفلسفة والعلوم الإنسانية في الجامعات الخليجية»).

لقد أدرك هذه الحقائق جيدا رواد علم الاجتماع نفسه ممن تمتزج دراساتهم الاجتماعية بالفلسفة بشكل لا يقبل الانفصال، ويمكن أن نذكر منهم في هذا الصدد على سبيل المثال لا الحصر: كارل ماركس، وكارل مانهايم، وتيودور أدورنو، وماكس فيبر، وهابرماس، وماركوزه، وأنطوني جيدنز إلخ. أما توجهات البحث الفلسفي ومناهجه التي كان لها تأثير بالغ على مجمل العلوم الاجتماعية، فهي ترجع إلى فلسفة التأويل، خاصةً لدى هيدجر وتلميذه جادامر ومن سار على نهجهما.

الشواهد على هذه الحقائق التي تجسد أزمة العلوم الإنسانية في الجامعات العربية، لا تعد ولا تحصى، ويكفي في هذا الصدد أن نلاحظ أن معظم الدارسين للتاريخ في هذه الجامعات لا يعرفون شيئا عن تأويل جادامر لمفهوم «الوعي التاريخي» على سبيل المثال (وهو موضوع مهم أشرفت على دراسته من خلال رسالة للماجستير!). ولو سألت دارسي الجغرافيا في جامعاتنا إن كانوا يعرفون شيئا عما يسمى «فينومينولوجيا الجغرافيا»، أو دارسي علم النفس والعلاج النفسي إن كانوا يعرفون شيئًا عن التوجه الفينومينولوجي في مثل هذه المجالات؛ فإن الإجابة سوف تكون غالبًا بالنفي! فما بالك لو سألت متخصصًا في العلوم الهندسية، خاصةً في فن العمارة، إذا كان قد سمع بكلمة «الفينومينولوجيا» في مجال تخصصه؛ فأغلب الظن أنه سوف ينظر إليك باندهاش، رغم أن هناك الآن العديد من الكتب الأجنبية الرصينة في مجال «فينومينولوجيا العمارة»!

هذا وضع كارثي على المستوى المعرفي، وهو وضع لا يشكل فحسب أحد أسباب تدهور التعليم والبحث العلمي في جامعاتنا عموما، وإنما يشكل أيضا أحد أسباب تدهور الوعي بوجه عام، وهو ما يتمثل في حالة جمود الوعي وانغلاقه وافتقاره إلى الانفتاح المعرفي. وقد كان لهذا في النهاية تأثيرات اجتماعية وسياسية ليست ببعيدة عن الأذهان: فحالة الفوضى والعنف بين المتعلمين التي أعقبت ثورة يناير في مصر كانت تتمركز في كليات جامعية بعينها، ومنها الكليات العلمية (كالهندسة والطب) التي لا يعرف طلبتها شيئا عن العلوم الإنسانية، فيدرسون موضوعات جافة لا حياة فيها، ولا تتصل بالإنسان من قريب أو بعيد. ومنها أيضا الكليات التي تُحسب على العلوم الإنسانية (مثل: دار العلوم) التي لا تزال تتبع مناهج تقليدية عتيقة ولا يكاد يعرف طلبتها شيئا عن مناهج العلوم الإنسانية المعاصرة. فهل نستفيد من هذه الدروس؟!