تدوين القرآن.. من القرآن
القرآن.. نص محفوظ من قِبَل الله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، وهو نص مختوم من بعد النبي محمد، فلا تجوز عليه الزيادة ولا النقصان، والواقع يؤيده على تقلّب الزمان بصراعاته بين المسلمين، فليس لديهم باختلاف مذاهبهم قرآن غير هذا الذي يتداولونه، وحتى الآن.. لا يوجد ما يشير بأن هناك نسخة منه تختلف عمّا بأيدينا من المصحف. و«الذكر» هنا يعني «القرآن»؛ خلافاً لمَن فرّق بين معناهما، وقد بيّنت ذلك في مقالي السابق «القرآن.. يتحدث عن نفسه»، وهو ما يُلمَس كذلك من قول الله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا)، فالتنزيل واحد.. تارةً يأتي باسم القرآن وأخرى باسم الذكر، كما جاء باسم الفرقان والكتاب، والتمايز بينها ليس في ذات المُنزَل، وإنما في دلالة ورودها في سياق النص.
إن كان المسلمون قد أجمعوا على اعتبار القرآن الموجود بين دفتي المصحف هو الكتاب المعتمد لديهم، واتفقوا على كفر مَن أنكر تنزيله؛ فإنهم في منظوماتهم الكلامية قد اختلفوا بين القول بعصمة القرآن من التحريف والتبديل، والقول بتحريفه؛ زيادةً أو نقصاناً، وهذا ما يوجد في بعض رواياتهم المنسوبة إلى النبي أو بعض صحابته، ومعظم المذاهب يوجد فيها شيء من هذه الروايات؛ بين مكثر منها ومقل.
ويرى غالب المسلمين بأن القرآن كان ينزل مفرّقاً بآياته، وأنه تم جمعه جمعاً بشرياً. وهم ما بين قائل بأن النبي هو مَن جمعه، فعندما كانت تنزل عليه آيات يأمر بوضعها في الموضع الذي يحددها من السورة، وأن جبريل كان يأتيه كلَ رمضان فيراجع له ترتيبه، وهذا أمر مُشكِل، أربك المسلمين كثيراً في فهم القرآن والاستشهاد بدلالاته. والذي أراه أن القرآن بأصله كان ينزل مجموعاً من قِبَل الله، أي ينزل منجماً سورة سورة، يقول الله: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ)، (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ)، (وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ)، (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا)، وليس آية آية، وقد بيّنت ذلك في كتابي «السياسة بالدين». وقد قال بهذا الرأي قبلي ابن قرناس في كتابه «أحسن القصص»، إلا أنه استثنى «سورة المزمل» بأنها سورة مكية بها آية مدنية، وعندي لا يوجد استثناء. وقائل بأن القرآن جمع على عهد أبي بكر الصديق. وقائل: إن من جمعه هو علي بن أبي طالب. ولزكريا المحرمي مقال بعنوان «إذا الصحف أحرقت» لخّص فيه آراء المذاهب في جمع القرآن، فنسب القول بجمعه في عهد أبي بكر لأهل السنة، وفي زمن علي بن أبي طالب للشيعة، وأما القول بجمعه من قِبَل النبي فنسبه للإباضية.
المقال.. يستجمع تدوين القرآن من خلال آياته، ويقدم ربطاً لها على غير المشهور في كتب التفسير. كان النبي يجد القرآن في صدره وقد نزل به الروح الأمين: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ)، فلا توجد محاولة للنبي بحفظ القرآن عن طريق استذكاره كما يفعل غيره، لأنه لا يتلقاه سماعاً، وإنما يجده في صدره، والمرء إن وجد شيئاً في صدره قلّما ينساه، فكيف إن كان الله هو من أوحى له به: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى، إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ)، فالنبي.. لا ينسى القرآن بطبعه، إلا ما أراد الله له نسيانه. وعلى النبي ألا يستعجل بإبلاغه للناس خشية نسيانه، وإنما عليه أن يبلّغه لهم على مكث، فالله.. هو من تولى جمعه في قلب نبيه، وهو كذلك من يتولى صدوره عنه للناس؛ أي قرآنه: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ).
لقد حرس الله بنفسه القرآن، ولن يستطيع أحد أن يزيد فيه أو ينقص منه شيئاً، ولو كان النبي نفسه: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ، وَمَا لَا تُبْصِرُونَ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ، وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ).
إن كان الله قد تولى أمر القرآن حتى بلّغه نبيه للناس؛ فإن النبي إدراكاً منه لعظمة وأهمية الرسالة التي حُمّل إياها، قد اتخذ بالتوجيه الرباني خطوات عملية تحقق هذه الغاية العظمى، والتي بدونها يتعرض القرآن للتحريف، كما حصل لكتب الأمم السابقة: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ). كانت النبوات السابقة حاضرة في وعي النبي الكريم، فقد قصّها الله عليه في القرآن كثيراً، وحتى لا يحصل له ما حصل لكتبهم؛ عمد إلى اتخاذ كَتَبَة للقرآن، بتدوينه في صحف، حتى يسهل حفظه، ويتيقن النبي بأن الوحي الإلهي الخاتم لن يتعرض للفقد والتحريف، وقد سمّى الله هذه الصحف بـ«اللوح المحفوظ»: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ). بخلاف ما فُسِّر به اللوح تفسيراً غيبياً؛ فأرى أن المقصود به هو ذلك «الكتاب» الذي يحوي السور المنزلة من القرآن، الذي أصبح محفوظاً بيد النبي أو بيد من ائتمنه النبي عليه، حتى لا تطاله يد التحريف والتبديل، وتسمية الكتاب الذي به تعاليم الله بالألواح قد سبقت بالنسبة للكتب السالفة: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا).
إن هذا اللوح الذي يحفظ القرآن حفظاً أميناً، هو مكنون من أن تمسَّه يد «غير طاهرة» قد تعبث بتنزيله: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ، لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، فعدم مسِّ القرآن من «غير المطهرين» ليس بمعنى نجاستهم الحسية ولا المعنوية، كما يذهب المفسرون، وإنما هو أنه مصان من أيدي التحريف، فنسخة اللوح المحفوظ مكنونة من أن يحصل لها ما يحصل عادة للكتب والقراطيس التي تتناسخ. وهذا أيضاً حصل للقراطيس التي كتبها الصحابة لأنفسهم من القرآن، فقد وضعوا فيها بعض الشروح وتفسير الكلمات، ولكن القرآن ذاته في اللوح المحفوظ ظل كما هو، حتى جاء الخليفة الثالث عثمان بن عفان فجمع الأوراق والرُّقع من أيدي الصحابة التي دونوا فيها تعليقاتهم وشروحهم، فأحرقها، حتى لا تعتبر في حكم القرآن. ونسخ عدة نسخ من القرآن «اللوح المحفوظ» «الكتاب المكنون»، ثم وزعها على الأمصار.
إن هذه النسخة المرجعية لم تعتمد بعد وفاة الرسول، بل اعتمدت من قِبَل الله، والرسول ذاته كان يرجع إليها، ويتلو ما فيها: (رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً، فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ)، وقد زكّى الله هذا العمل العظيم بقوله: (كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ، فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرَامٍ بَرَرَةٍ). فالقرآن.. أصبح مادة مكتوبة، ذات مكانة عالية غير قابلة أن يمسّها «رجس» التبديل والتحريف الذي لحق بالكتب السابقة، فصحف القرآن.. بأيدي وضيئة ونفوس كريمة بارّة، ولا عِبرة بالروايات التي تذكر كَتَبة مرتدين كعبدالله بن أبي السرح، أو التي تدخل في التباهي المذهبي بأن معاوية بن أبي سفيان كان من كتبة الوحي.
وأما ترتيب السور في المصحف فهو غير توقيفي من الله، بل اجتهاد ممن نسخ المصحف على عهد عثمان بن عفان، وهذا لا يمس من حفظ القرآن شيئاً، ولا يقلل من قيمته، فأن تقرأ «سورة البقرة» مثلاً قبل «سورة براءة» لا يؤثر على الرسالة التي جاء لأجلها هذا الكتاب الخاتم.
