تحديد المفاهيم في قضايا الإصلاح والتجديد

09 مارس 2022
09 مارس 2022

لا تزال بعض النخب الفكرية العربية، تعاني مشكلة تحديد مفاهيم ومصطلحات، الإصلاح، والتجديد، والجهاد، والخطاب الجديد، وبرزت على هذه المفاهيم تفسيرات عديدة، أدخلت عليها التوجهات الفكرية والإيديولوجية من أطراف عدة تستهدف انعطاف هذه المفاهيم، بما يعكس توجهاتها الفكرية والسياسية، لذلك الطرف أو ذاك، لكن هذه الآراء والأفكار المختلفة حول هذه المفاهيم وتفسيراتها لا تستطيع تجاوز القيم الثابتة للتجديد والإصلاح، وقد كتب الكثيرون حول هذه القضايا وإشكالاتها، وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وما جرى فيها كما يعرفه الجميع، طرحت قضية تجديد أو إصلاح الخطاب الإسلامي، وكأنها موجهة لما أسموه بالتطرف والإرهاب لكن المشكلة أن هذه المسألة دخلت فيها معايير وتحديدات أخرى، تريد بعضها نسف الكثير من المستقرات الدينية، بل وحتى تم الحديث عن تغيير أو حذف بعض آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن الجهاد، وهذه بلا شك تم رفض قبولها، ومع ذلك يجب القول إن قضية رفض الإرهاب والتطرف، مسألة مبدئية في دين الإسلام الحنيف، كما أن قضية التطرف وإرهاب المستأمنين وأصحاب الأديان السماوية ليس لها حاضن فكري لقبولها، لأنها جاءت في آيات عديدة في الكتاب الكريم، فالتطرف الأعمى من أي فكر وأي دين مرفوض، ولا يقبله الجميع، حتى غالبية المسلمين تدين هذه الأعمال، وهم الأكثر تأثرا من هذا التطرف الذي لا يشكل أهمية ولا يعبر عن حقيقة الدين الإسلامي.

لكن من المهم أيضا التفريق بين التطرف لمجرد الاختلاف أو لأسباب فكرية أو سياسية، أو اجتماعية، أو بعضها كما يقال نفسية أو أسرية، وبين المناضلين من أجل نيل حقوقهم المشروعة، وهذه قضية يجب التنبيه لها، حتى في النظم الوضعية تقابل بالرفض والنقد، والإشكال في هذا الأمر الذي يواجه العالم اليوم يبرز في مشكلات عربية ودولية، وتسبب الصراعات والتوترات، بل والحروب ـ كما يجري في فلسطين منذ 70 عاما والآن في أوكرانيا ـ هي المعايير المزدوجة عند الدول الكبرى، والانحياز لطرف دون أن يتحقق الإنصاف الذي سيسهم في إحقاق الحق، ويجب الاستقرار فيما يجري في عالم اليوم من مشكلات عالقة ومنها خافتة، في قضية عدم الوقوف مع صاحب الحق الثابت والذي أقرته القوانين والنظم التي وضعها المنتصرون في الحرب العالمية الثانية، ولذلك تم وضع لهذا النظام الدولي فقرة قانونية سميّت بـ(حق النقض (الفيتو)، وهي تطرح حق الاعتراض على أي إدانة لمن كان حقه مهضوما.

لكن مسألة التجديد والإصلاح، قضية اهتم بها الفكر الإسلامي منذ العصر الأول، وهي بمثابة فكرة الحداثة التي وضعها الغرب، ما بعد القرن الثامن عشر، بعد إقصاء الكنيسة، وتحجيم دورها، بعد محاربتها للعلم والاختراع والتطور، لكن الإسلام ليس له صراع مع العلم والتمدن والرقي، ولا يوجد تناقض بينهما، بل إن الإسلام شجّع العلم وأعطاه مجاله الرحب في الانطلاق.

فالتجديد، الذي هو قرين الإصلاح المنشود، مسألة مطلوبة وأساسية، والحاجة له بدأت منذ الخليقة كمطلب للتجديد في المتغيرات الحياتية، وإيجاد وسائل للإصلاح عندما تتراكم بعض الآراء المتناقضة، وتخالف المستقرات الفكرية، وهذا مقصد التجديد وروحه، خاصة عندما يستحكم التقليد والجمود على الآراء الثابتة دون الإصلاح في القضايا الاجتهادية، وإدخال آراء وأفكار بعيدة عن الأصول الصحيحة لما هو أدق وأجدر بالاتباع والاقتداء، وهذا ما اهتم به علماء ومفكرون منذ العصور الأولى للإسلام، ومن هؤلاء الإصلاحيين في القرن التاسع عشر من أمثال المصلح جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، وتلاميذهم في القرن العشرين، وهذا ما أسهم في فتح آفاق التجديد في الفكر الإسلامي، وإبعاد الجمود الذي استشرى في الأمة وأضاف إليها الاحتلال الأجنبي من إشكالاته ومساوئه الكثيرة، بهدف تحقيق أهدافه لتغريب المجتمعات، ولذلك تطلب الأمر مواجهة التغريب الذي يريد أن يتجاوز ما هو مستقر من الثوابت في فكرنا العربي الإسلامي، وهي بلا شك تحتاج إلى رؤية تجديدية وإصلاحية لتخطي واقع الأمة في راهنها القائم، وهناك مسائل ليست في أصل الدين، وبعض هذه الأفكار دخيلة عليه، وقد عبر د. برهان غليون عن هذه القضية بقوله: «ليس الحديث في تجديد الفكر الإسلامي من الموضوعات الحديثة أو الراهنة في العالم العربي أو الإسلامي، فقد كان تاريخ المسلمين حافلا بمحاولات الإصلاح والتجديد والإحياء. ولعل المحاولة الأكثر شهرة في العصر الحديث هي ما قامت به المدرسة السلفية في نهاية القرن الماضي والتي استمر الفكر الإسلامي المعاصر يسير عليها في اعتقادي إلى يومنا هذا. ونستطيع أن نقول: إن جميع محاولات الإصلاح الماضية والحاضرة ما زالت تستقي من مفهوم رئيس واحد هو العودة إلى الأصول. والعودة إلى الأصول تعني في الواقع إعادة الحياة إلى القيم والمعاني السليمة أو الأولى التي تعيد الإسلام إلى ما كان عليه وقت نزوله، أي إلى حقيقته». فقضيتي التجديد والإصلاح لا محيد عنهما في الفكر الإسلامي، بحيث تنطلق من رؤية صحيحة من خلال العودة إلى الأصول، والتفريق بين ما هو ظني وما هو قطعي، وهذا التفريق، هو الذي يجب النظر إليه بعقلية علمية وفكرية نابهة وقويمة، وليس على طريقة بعض العصرانيين المتعلقين بالغرب وفكره، ويريدون التبديد وليس التجديد، أو كما قال د. رضوان السيد: «إن هؤلاء يريدون ضرب الدين والإسلام بالذات والثورة عليه». وقد كتبت عن قضية التجديد، وقلت ما نصه: لا شك أن من مهام التجديد في النظرة الإسلامية، التجديد في العقول والإفهام المسلّمين للدين، وليس التغيير في نصوص الدين، وهذا ما سار عليه الإمام محمد عبده، وهو «تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طرق سلف هذه الأمة قبل ظهور الخلاف». فالتجديد سنة من سنن الله عز وجل في خلقه، تبعا لسنة الحياة في التغيير بما يحقق مصالح الخلق، كما أن التجديد يحمل سمات الرسالة الإسلامية الخالدة، وهو كذلك سر تجدد عطائها الحضاري وتميزها الفكري في كل الحقب التاريخية، والسؤال الذي يطرح نفسه في مسألة التجديد، لذلك من المهم أن ندقق في قضية ومعناه المقصود فـ: «هل التجديد ـ كما يقول د. محمد الفرّان ينصب على أصول الدين؟ أم على طرائق فهمه وكيفيات ربطه بواقع المسلمين؟. إن خاتم النبوة ينفي إمكانية القيام بعملية التجديد في أصول الدين، فهي أصول ثابتة لا تقبل أي تغيير على الإطلاق، وهذا مقصور على القرآن الكريم والسنة الشريفة الصحيحة، باعتبارهما خارج دائرة التجديد الذاتي، ثم فإن التجديد يتحقق من خلال أساليب ومناهج يتم فهمها والتعامل معها بحكمة وحيوية».

وهذا ما يجب أن يطرح ويناقش، دون أن يخرج هذا الأمر عما هو جدير بالأخذ في الاعتبار، وليس ما يراه البعض مغايرا لما هو واقع وثابت ومطلوب في قضية التجديد والإصلاح، ويناقض ثوابت الإسلام، والبعض ممن يرفضون مبدأ التجديد كلية ويعتبرونه تهديما للدين نفسه، ليس صحيحا ـ كما يقول د. محمد عمارة ـ فالتجديد هو «السبيل لامتداد تأثيرات الدين الكامل وثوابته إلى الميادين الجديدة، والأمور المستحدثة، والضمان لبقاء الأصول صالحة دائما لكل زمان ومكان.. أي إنه هو الضمان لبقاء الرسالة الخاتمة خالدة الخلود الذي أراده الله، ولولا مد التجديد الفروع الجديدة إلى الجديد من المحدثات، وإقامته الخيوط الجديدة بين الأصول الثابتة وبين الجديد الذي يطرحه تطور الحياة.

ولولا تجديده الدائم الذي يجلو الوجه الحقيقي والجوهر النقي لأصول الدين وثوابته.. لولا دور التجديد هذا في حياة الإسلام ومسيرته لنسخت وطمست هذه الأصول، إما بتجاوز الحياة الممتدة لظل الفروع الأولى والقديمة، فيعري هذا الامتداد الجديد من ظلال الإسلام، أو بتشويه البدع ـ عندما تتراكم ـ لجوهر هذه الأصول». التجديد في الشيء لا يعني إزالته، بل إعادة فهمنا للدين وإعادة النظر في رؤيتنا، والعودة إلى الأصل الحقيقي للدين، وأيضا أن التجديد يكون في الفكر الإسلامي ولا يشمل منطقة الثوابت التي لا يجوز فيها الزيادة أو النقصان ولا التغيير أو التبديل». وهذا ما قاله العالم الألماني المسلم محمد أسد: «نحن لا نحتاج إلى فرض إصلاح على الإسلام كما يظن بعض المسلمين لأن الإسلام كامل بنفسه من قبل، أما الذي نحتاج إليه فعلا فإنما هو إصلاح موقفنا من الدين بمعالجة كسلنا وغرورنا وقصر نظرنا وبكلمة واحدة معالجة مساوئنا نحن لا المساوئ المزعومة في الإسلام. ولكي نصل إلى إحياء إسلامي، فإننا لا نحتاج إلى أن نبحث عن مبادئ جديدة في السلوك نأتي بها من الخارج، إننا نحتاج فقط إلى أن نرجع إلى تلك المبادئ المهجورة فنطبقها من جديد»، وهذا هو مربط الفرس، كما تقول الأمثال العربية.

تحديد المفاهيم في قضايا الإصلاح والتجديد.

«لا نحتاج إلى فرض إصلاح على الإسلام كما يظن بعض المسلمين لأن الإسلام كامل بنفسه من قبل، أما الذي نحتاج إليه فعلا فإنما هو إصلاح موقفنا من الدين بمعالجة كسلنا وغرورنا وقصر نظرنا، وبكلمة واحدة معالجة مساوئنا نحن لا المساوئ المزعومة في الإسلام»