تجارة الأحزان في شبكات التواصل الاجتماعي!

26 يوليو 2023
26 يوليو 2023

لطالما كان حرص الناس على إخفاء أو حصر الأخبار السيئة أو الحزينة على وبين من وقعت عليهم الأحزان، لأن ليس من العادات الحسنة إشاعة الأحزان، وعلى العكس تماما، يحرص الناس على إشراك غيرهم فيما هو مفرح وناشر للبهجة، لذا يحرص الناس على إرسال دعوات الأفراح إلى أصدقائهم ومعارفهم، ولا يفعلون ذلك في حالات الأحزان، إلا في الإطار الضيق للأسرة، فتصل أخبار الوفاة أو المرض إلى أفراد الأسرة والمعارف المقربين فقط.

عندما فكرّ طالب جامعة هارفارد (الذي لم يكمل متطلباته الدراسية وغادر الجامعة العريقة دون شهادة) مارك زوكربيرغ عام 2004 في منصة الكترونية يتمكن بواسطتها من معرفة أخبار رفاق الطفولة والصبا، بعد أن تفرقت بهم السبل بعد المدرسة الثانوية، وأين أخذت الحياة كل واحد منهم؛ من تخرج من الجامعة، من يعمل وفيما يعمل، وما هي العلاقات الاجتماعية التي انخرطوا فيها؟ كان يهدف - كما عبر أكثر من مرة - إلى إعادة وصل ما انقطع من علاقات اجتماعية، وإلى معرفة «قصص النجاح» لدى الآخرين، فيتشاركون تجاربهم ويدخلون الناس فيها، فيشيع المثال الحسن، وتنتشر الأخبار الإيجابية، ومن هنا، على الأرجح، جاءت التسمية التي باتت تُطلق على مختلف المنصات، فيسبوك وأخواتها ومنافسوها الكثر، «شبكات التواصل الاجتماعي».

لجوء زوكربيرغ إلى شبكة الأنترنت لمعرفة أخبار الصحب والأصدقاء كان تعبيرا عما بلغته الحياة الاجتماعية في الغرب من «عزلة الفرد» عن الجماعة، ومن تحول «الفردانية» إلى «وحدانية» قاتلة بمعنى الكلمة، أراد مخترع فيسبوك كسرها، فيتعارف الناس ويتبادلون الأخبار فيما بينهم، من دون أن يعني، أن الشاب العشريني يومها، لم يفكر في الربح التجاري عبر هذه الوسيلة، التي جعلت منه اليوم واحدا من أكثر الرجال ثراء في العالم.

عندما انتقلتُ للحياة في ولاية فرجينيا الأمريكية عام 2005، كانت جارتي في البيت الملاصق لبيتي امرأة مسنة لها ابنتان طالبتان جامعيتان لا يزرنها إلا في المناسبات، كانت تتدبر حياتها بنفسها، وبمساعدة جار لها، وهو رجل مسن، وأقدم من يعيشون في ذلك الحي، كما عرفت منه. كنت التقي جارتي في بعض الصباحات بموقف السيارات أمام بيتينا فنتبادل التحيات العابرة، ثم لم أعد التقيها، وبعد مضي أيام سألت جارنا المشترك عنها فأخبرني أنها توفيت في بيتها من دون أن يعلم بها أحد، ولولا أنه يتردد عليها، بين الوقت والآخر، لربما تعفنت جثتها وتحللت وحيدة كما عاشت سنوات شيخوختها وحيدة.

الفردانية في الغرب، على أهمية ما أوجدته من قيمة للفرد وما منحته من حرية واستقلال، لها ضريبتها على الجانب الآخر، فأصبح الأفراد يمضون في حياتهم فيما يشبه الجزر المعزولة عن بعضها. وهو على خلاف الحياة في الشرق؛ حيث الأسرة مترابطة، مهما كبر أفرادها واستقلوا، وحيث بقيت كثير من الفضاءات والعادات الاجتماعية التي يلتقي فيها وحولها الناس، فيعرفون أخبار بعضهم بعضا.

بالطبع، الصورة اليوم ليست بهذه الطوباوية، فقد تأثرت المجتمعات الشرقية، بما فيها المجتمعات العربية، بما تعيشه المجتمعات الغربية وما تنتجه من ثقافة وسلوك وقيم، ومن بينها ثقافة عزلة الأفراد عن بعضهم البعض، لكنها أيضا أوجدت ثقافة المشاركة ولكن في كل شيء، كل شيء تقريبا، بما فيها أكثر الحالات خصوصية.

لدينا في العالم العربي، وبدرجات متفاوتة، فضاءاتنا وعاداتنا الاجتماعية التي نجتمع فيها، ومن بينها مجالس العزاء التي يلتقي فيها الناس لمواساة من حلت بهم مصيبة الفقد، ثم يعودون إلى حياتهم، لأن من رحل لا يعود، و«الحي أبقى من الميت» كما تقول الجملة السائرة.

الملاحظ اليوم، وعلى نحو يستحق التأمل والدراسة، هو ميل البعض إلى نشر وترويج الأحزان، أخبار وصور المتوفين، وأخبار وصور الحوادث، وأخبار وصور المرضى، بل ان البعض داوم على نشر أخبار مرضه الشخصي، صوره في المستشفى وفي غرفة العمليات، فيما يشبه الاتجار بالألم والحزن، وطلب الاستعطاف ممن لا يعرف، ولا يعرف كيف يتعاطى من يقرأ ويشاهد تلك الصور وما هو الموقف منها.

صرتُ شخصيا، إذا رأيت صورة رجل أو امرأة أو طفل، منشورة على واحدة من شبكات التواصل الاجتماعي، اتجنب قراءة ما هو منشور مع الصورة من معلومات، لأنه في الغالب معلومات تشيع الحزن والألم.

نتألم ونحزن لمعرفة موت أو مرض من نعرف، قريب أو صديق، فنبادر إلى الوصل أو الاتصال للمواساة ومشاركته الأحزان، فنحمل معه ما يخفف عنه، لكننا نتألم ونحزن أيضا لمعرفة موت أو مرض من لا نعرف، فنحمل الحزن من دون أن يكون بمقدورنا التخفيف عمن حلتّ بهم خسارة الفقد والمرض عن قرب.

بدت وسائل التواصل الاجتماعي اليوم وكأنها مجالس مآتم وعزاء، وغرف مسشتفيات، تنشر الأحزان على الناس جميعا ما يرفع منسوب الحزن والألم في النفوس، ويصبح الحزن حالة اجتماعية.