تأملات في أحوال الوباء

15 فبراير 2022
15 فبراير 2022

منذ تفشي وباء كورونا «كوفيد-19» تفشت أيضًا الآراء المتضاربة حول الوباء نفسه، وحول الحالات الفكرية والاجتماعية والسيكولوجية التي تترتب عليه. ورغم أن هناك الكثير من الصواب في بعض مما قيل، إلا أننا لا يمكن أن نوافق على الشطط فيما ذهب إليه البعض من القول إن الفكر أو الفلسفة سوف تتغير بعد هذا الوباء. وليس في وسعنا أن نصف من يروجون لمثل هذه الأقوال سوى أنهم يشبهون بالضبط شعراء المناسبات الذين تَرُوج أشعارهم في المناسبة التي قيل فيها شعرهم، ثم تتوارى أشعارهم بعد ذلك، وإن ذُكِرَت فإنها تُذكَر غالبًا على سبيل التندر. الفلسفة كانت وستظل في جوهرها هي البحث الكلي عن كل ما هو عارض وجزئي ومتغير في الحياة (كما أطلعنا على ذلك أفلاطون من قديم الزمان)، ومن هذا العارض والجزئي والعابر الأوبئة نفسها. كم من الأوبئة مرت على البشر، فهل غير ذلك شيئًا جوهريًّا في طبيعة البشر أنفسهم أو في طبيعة العالم نفسه؟! الأوبئة والكوارث الطبيعية وما شابه ذلك، لا تغير شيئًا من فكرنا ومن طبيعتنا، بل إنها يمكن أن تكون مناسبة جيدة للتفكير في طبيعتنا البشرية وفي طبيعة العالم الذي نحيا فيه.

الرأي الدارج أو الشائع أن الوباء كله شر، ينبغي أن نستعيذ بالله منه، في حين أن الإيمان الحق يقتضي أن نشكر الله على كل ما آتانا من خير أو شر ومكروه: «وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم». هذه الآية الكريمة تستحق أن نتأمل معناها هنا من حيث دلالتها الفلسفية، وبمنأى عن سياقها الديني. هل يمكن حقًّا للوباء أن تكون له أي قيمة، بحيث يمكن أن نمتدحه أو -على الأقل- نتقبله؟! هذا مناط رؤيتي هنا.

لا يزال وباء كورونا يهددنا الآن مثل غيره من الأوبئة، والواقع أن الأوبئة يمكن أن تندرج تحت مفهوم أوسع هو الكوارث التي تشمل أيضًا الزلازل والبراكين، والتغيرات المناخية الحادة، والحروب، وما إلى ذلك مما يتفاوت تأثيره على البشر بحسب حدته، وبحسب مدى تطورهم الحضاري في مواجهة تلك الكوارث. الوباء إذن -مثل الكوارث- هو تهديد للبشر على مستوى محدود أو على مستوى عالمي. ولعل أول ما يمكن أن نلاحظه هنا هو أننا عندما نشعر بهذا التهديد نصبح إزاء الوعي بالموت في خبرة مباشرة. الحيوانات ليس لديها وعي بالموت، ويبدو أن عموم البشر لا يعانون أيضًا هذه التجربة على مستوى الوعي، فهم لا يتذكرون الموت إلا في سرادقات العزاء أو في حالات المرض العضال، ولكن الوباء القاتل يضعهم دائمًا في مواجهة الموت، أي في مواجهة وجودهم الحقيقي باعتباره وجودًا متناهيًا، أي «وجودًا من أجل الموت» بتعبير الفيلسوف الكبير هيدجر. هذا الوعي بالوجود الإنساني باعتباره «وجودًا من أجل الموت» هو ما يميز الوجود الإنساني الحقيقي الذي يعي معنى الزمانية والتناهي. وتلك حسنة كبرى من حسنات الوباء الذي يَرُّد المرء إلى الوعي بنفسه: بوجوده الحقيقي أو الأصيل.

وبمنأى عن مسألة الموت، فإن هذا الوباء الجديد الذي يهددنا بالموت قد فرض علينا حالة جديدة لم تعرفها البشرية من قبل، وهي حالة العزلة التي تُفرَض علينا قسرًا من خلال حكومات الدول، أو يفرضها الأفراد على أنفسهم انصياعًا للقرارات الحكومية، خشيةً من الوباء الذي يهدد حياتهم. وفي حياة العزلة منافع عظيمة لا يفهم كنهها إلا كل موجود أصيل. في حياة العزلة نعود إلى ذواتنا المَنسية، ونبقى بقربها: إنها العودة إلى الذات التي عادةً ما تضيع أو تفقد نفسها في غمار العالم وانشغالاته اليومية. حياة العزلة تضع الموجود أمام ذاته مباشرة، بلا حائل من شواغل الحياة المعتادة التي تضيع في غمارها الذات الحقيقية للموجود البشري. أما الذات الزائفة، فإنها تعاني من حياة العزلة، لأنها تجد نفسها إزاء العدم أو الفراغ المطلق، فلا تدري ماذا تفعل عندئذ سوى الانصياع للشعور القسري بالفراغ والملل والرتابة.

ومن الناحية «الكوزمولوجية»، أي النظرة الكلية المتعلقة بالعالم نفسه، فإننا نجد أن الأوبئة والكوارث عمومًا تشكل ضرورة طبيعية وضرورة بشرية: فالضرورة الطبيعية تتمثل في ضرورة البراكين والزلازل في التنفيس عن القشرة الأرضية التي نعيش فوقها. ومن الناحية البشرية الخالصة، فيكفي أن نتخيل النحو الذي سيكون عليه العالم إن قُدِّر له أن يكون بلا أي كارثة من الكوارث التي تحصد تلك الكثرة من الملايين كل عام على الأقل! أظن أن العالم عندئذ سوف يكون كارثيًّا بحيث تشكو منه القشرة الأرضية التي تعيش عليها الكائنات!

ومن الناحية العملية، فإن حياة العزلة كما صورها هيدجر، وحياة الفراغ كما صورها أرسطو باعتبارها من لوازم التفلسف (ولنقل بوجه عام: من لوازم كل إبداع) هو ما يبرهن لنا على أن حالة وباء الكورونا تتيح لنا هذا النوع المثمر من الحياة. ويكفي أنها أتاحت لنا «عيشة الفراغ»، فالفراغ في حد ذاته لا يعني الملل بالضرورة، بل يمكن أن يجعل الذات تنكفئ على نفسها ومشاريعها، بحيث تتيح للمرء الحاضن لمشاريع فكرية أو فنية وما إلى ذلك، أن ينجز مشاريعه المؤجلة. وهذا مما وقع في خبرتي الشخصية.

هذه بعض تأملاتي حول تجربة الوباء التي لا نزال نعيشها، وما كان لها أن تتأتى ما لم يمض عليها فترة مناسبة أو مسافة كافية تسمح بتأملها.

سعيد توفيق كاتب مصري وأستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة