بين وعيين: اجتماعي وثقافي

08 مايو 2022
08 مايو 2022

يشكل محورا الوعي (الاجتماعي/ الثقافي) أهم منطلقين نحو تقييم وعي أفراد المجتمع، والحكم عليه في أنه مجتمع قادر على التفريق بين الخطأ والصواب، في كل مناحي حياته واشتغالاته اليومية، أو أنه قادر على استيعاب مختلف مجريات الأحداث، بما في ذلك استنباط الحلول لكثير من مشكلاته التي تعترض طريقه نحو فهم أعمق لحياته اليومية، وبقدر هذه الأهمية التي يشكلها هذان المحوران في هذا الجانب، إلا أن هناك مجموعة من الالتباسات التي تحيط بهما في شأن هذا الوعي الذي نتحدث عنه، ومن جملة هذه الالتباسات هي أيهما يأخذ أولوية التأثير في هذا الوعي، ونقله من حالته الفطرية الأولى «المنشأ» إلى حالاته المتعددة فيما بعد حيث التأثير على القناعات والمواقف، التي يكون عليها الأفراد، وكذلك من جملة هذه الالتباسات أيهما أكثر تأثيرا على الآخر، مع التسليم بأن الوعي الاجتماعي هو المحطة الأولى في حياة الإنسان، لأن أي فرد يولد في أسرة، وهذه الأسرة معتقة بموروثاتها الاجتماعية، قبل أن تتداخل معها مجموعة المؤثرات الثقافية؛ وهي غالبا؛ مكتسبة من خارج محيط الأسرة، كما يأتي من ضمن هذه الالتباسات المجموعات الضاغطة في التأثير على هذا الوعي وهي مجموعة البرامج، والموجهات الإرشادية، والتوعوية، وسواء تبنى هذه كلها مؤسسات معنية في النظام السياسي، أو مجموعات تطوعية منطلقة من استشعارها بضرورة أن يكون لها دور في المساهمة في هذا الوعي، إذن والأمر كذلك، فالمسألة على درجة كبيرة من التعقيد، ولا يفك أدوات هذا التعقيد إلا تقييم نتائج السلوكيات الملموسة بين أحضان المجتمع، وفرزها بين الخاضعة للمؤثرات الاجتماعية، والمؤثرات الثقافية، وبالتالي الحكم على أي من هذه المؤثرات يكون الفاعل الأكثر في توجيه بوصلة الاهتمامات لدى أبناء المجتمع.

وينظر إلى العلاقة بين الاجتماعي والثقافي على أنها علاقة الضد للضد (ما يذهب إليه البعد الاجتماعي؛ يناقضه البعد الثقافي) في بعض المواقف، وعلى أنها علاقة التكامل والتوافق (كلا الأمرين يعاضد بعضهما بعضا) في مواقف أخرى، وعلى أنها علاقة أنصاف الحلول (أي لكل واحد دور يقف عنده؛ ولا يتعداه) في مواقف ثالثة، وهذه المناخات الثلاثة هي التي تعمق من مستوى الإيمان بالهويات في المجتمعات بشكل عام، ولكن في خصوصيات هذه المجتمعات فإن المسألة تتجه إلى تقسيم المجتمعات إلى ثلاثة أقسام كما هو التصنيف: مجتمعات تقليدية؛ وهي المجتمعات التي يظهر فيها علاقة الضد بالضد، حيث تنتصر دائما لموروثاتها، وقيمها التقليدية، وتعض عليها بالنواجذ، أما في المجتمعات الحديثة؛ فتظهر فيها علاقات التكامل والتوافق أكثر، حيث تظل لها القدرة على استيعاب الحديث، وفي الوقت نفسه المحافظة على الموروث، أو توظيفه في خدمة الحديث، أو العكس أيضا، وهذا النوع من المجتمعات تظل فيها حالات تأثيرات الوعي قائمة على التوازن، وربما تكون قدرتها في التأثير على مجريات الأحداث أكثر فهما، ووعيا، أما المجتمعات المغلقة، التي تؤمن بأنصاف الحلول؛ كما هو التقييم؛ وهذه غالبا ما تكون مجتمعات فئوية أو أقلية، فإن قبولها أو رفضها لتأثيرات الوعي تظل محدودة، حيث تلعب فيها المادة الاجتماعية بورقتها الرابحة أكثر من المادة الثقافية «المصنعة» عبر وسائلها المختلفة، فهذه التناصات الموجودة بين الفئات الثلاث في المجتمعات هي المعول عليها لعمل زحزحات أو حراك تغييري لكسر جمود عدم قبول الوعي بحمولته الكاملة، والخروج من مأزق التشظيات الجاثمة على الصدور، وهذا الأمر ليس يسيرا إطلاقا حيث تتحكم فيه قناعات الأفراد في القبول أو الرفض، حتى ولو حاولت المؤسسة الرسمية عمل اختراقات لكسر هذا الجمود، إلا أن للأجيال غالبا دورا مهما في هذا الاتجاه، وعليه يعول عمل هذه الزحزحات، وكسر هذا الجمود، لأن إيمانها بكل ما هو موجود قائم على مجموعة الأدوات التي يستخدمها في حينه، وليس الأدوات المنقولة إليه عبر الأجيال السابقة، والتي هي في مرحلة حمل حقائبها للسفر إلى الأبد، وهذه مسألة مهمة عند وضع قراءات لحراك المجتمعات عبر وعيها الاجتماعي أو الثقافي على حد سواء.

وعند النظر إلى المسألة الاجتماعية وقدرتها على التأثير في الوعي، فإننا بذلك نذهب مباشرة إلى محطات مهمة في هذا الجانب، حيث نقف عند تأثيرات الأسرة؛ وهي شديدة التعقيد في هذا الجانب، خاصة تلك الأسر التي لا تزال تحت راية «الأسرة الممتدة» بخلاف الأمر عند «الأسرة النووية»، وعندما نخرج من استحكامات الأسرة سوف نقف عند فضاءات المجتمع؛ هذا العدد الكبير (أمواج من البشر) تتصارع فيه الثقافات، والقناعات، والرؤى، والمصالح، والاختلافات، والضديات، وقليل من التوافقات، صورة «فسيفسائية» من البشر لا متناهية، ومن بعد ذلك يمكن الوقوف أيضا على أثر العلاقات العامة المختلفة، وهي علاقات خاضعة أيضا لمجموعة من التصنيفات، تدخل فيها العلاقات المهنية، وعلاقات الصداقة، وعلاقات ذوي القربى، وعلاقات الصحبة، وعلاقات الصاحب بالجنب، فهذه الكتلة العلائقية الاجتماعية يظل تأثير الوعي الاجتماعي فيها أكثر من الوعي الثقافي، بحكم علاقات التداخل هذه، وإن تظل قابلة لتأثيرات مجموعة الاختراقات المهاجمة بقوة، سواء أكانت موجهة، أو طبيعية بفعل سياقات الحياة العامة المتبادلة بين الأفراد، ولكنها تظل كتلة «اجتماعية» تحمل تصنيفها العلمي بكل وضوح، ولا يمكن تجاوزها عند النظر في مسألة تأثيرات الوعي لدى الأفراد، ومستوى التأثير الذي تمارسه مقارنة بالحالة الثقافية المنافسة بقوة الأدوات؛ من ناحية، والمنافسة بقوة القناعات المتولدة لدى الأجيال الشابة من ناحية ثانية، ولذلك يعاب على الناحية الاجتماعية بأن سطوتها ليست محكمة بالقدر الذي لا يمكن اختراقها، ويمكن التعليل على ذلك؛ وهو أن منافسة الأجيال المتتالية في خضم محيطها، هو الذي يقوض هذه الاستحكامات المحيطة بها، وهي بذلك لا يمكن أن يحكم عليها بأنها تعيش حالة تناقض بين ما تنادي به، وبين ما هو الواقع، لأن سياقات الحياة قائمة على ذلك وبلا تكلف، ولذلك فالذين يبالغون في تقييم الحالة الاجتماعية على أنها تعيش أزمنتها الأخيرة، يبقى تقييمهم غير واقعي، فالأجيال؛ على امتداد التاريخ؛ هذا حالها تتبادل التهم، وتوجد صراعات فيما بينها، وكلا الأمرين ضمن المعقول والمقبول، ولا يصل إلى مستوى الرفض أو عدم القبول، ويبقى من حق كل جيل أن ينتصر لثقافته وأدواته الحاضرة، فهي المعبرة عن ذاته، وعن هويته «وليس الفتى من يقول كان أبي؛ إن الفتى من يقول ها أنا ذا» فهذه قناعة اجتماعية متجذرة بامتياز.

يعاني الـ»ثقافي» من مشكل التأصيل، بخلاف الاجتماعي، لأن هناك أكثر من مصدر مغذٍ لمشروعه، فتأتي المدرسة ابتداءً؛ ثم تكمل مسيرتها الجامعة، ثم بعد ذلك تأتي مؤسسة الوظيفة بمهنها المختلفة، كما تتواصل في المسار ذاته مجموعة من المغذيات كالندوات، والدورات التدريبية، وحلقات العمل المختلفة، ومجموعة الأسفار إلى مشارق الشعوب ومغاربها، ومجموعات المؤثرات المتهاوية من كل حدب وصوب والمتمثلة في الأحداث صغيرها وكبيرها، سيئها وحسنها، القريبة والبعيدة، الأجناس والألوان، العرقيات، والديانات، والمذاهب الدينية والسياسية، والفكرية، وفنون العمارة، وتقليعات الملابس، والمؤثرات الجسدية، وما تفرزها مخاضات القارات، ورحلات الفضاء، ومفاهيم الأسلحة النووية، والإلكترونية، والمطبوعات الفنية، والأفلام، والتقارير الإخبارية السياسية والاقتصادية والدينية والحربية، والأفلام التسجيلية، والبرامج الترويجية التجارية أو السياسية «البروباجندا» فهذه الصور المغذية؛ في مجملها غير ثابتة، فهي خاضعة لعوامل زمنية، وجغرافية، واجتماعية، وإنسانية، وحالات فجائية، وبالتالي صحيح أنها تلعب دورا محوريا مهما في تشكيل الآراء والمواقف، والقناعات، وتحقق مجموعة من الإشباعات، ولكنها تظل موقوتة بزمنها وجغرافيتها، ومجموعة الفاعلين فيها في تلك اللحظة، ويبقى رهان البقاء الثقافي معتمدا على مستوى الكم المستوعب من هذا الحدث أو ذاك، والاستيعاب هنا مساحة معرضة لكثير من الرسائل التي ذكرت بعضها في هذه الأمثلة، أي أن هذا الكم المستوعب معرض للمسح، واستبداله بمادة أخرى أكثر تأثيرا، وغالبا ما تكون الأحداث القاسية هي أكثر تأثيرا. وهل يتلقى الفرد كل هذه الرسائل الثقافية في آن واحد؟ أقول نعم؛ في ظل الانتشار السريع لوسائل التواصل المختلفة، بما فيها الوسائل الإعلامية التقليدية.

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني