بين بناء وهدر المواهب القيادية.. أين النقاط العمياء؟

31 أكتوبر 2023
31 أكتوبر 2023

إذا سألنا المؤسسات وفرق العمل عن خططها بشأن بناء القيادات سنجد أغلبها يعتمد على خطط التدريب السنوية، وإذا تتبعنا مسارات إسناد المواقع القيادية سنجد أنها في كثير من الأحيان تعتمد على استقطاب الكفاءات من خارج المؤسسة، إذن ما هي النقاط العمياء في تعزيز القيادة الإدارية داخل المؤسسات؟ وهل تهدر النظم التقليدية ثروة المواهب القيادية في خضم هياكل العمل الراهنة؟ تشير الإحصائيات أن غالبية قادة الفرق والمديرين يشرعون في بناء قدراتهم ومهاراتهم القيادية بعد تكليفهم بالمهمة الإشرافية في مسيرتهم المهنية، مما يعكس محدودية دور التدريب الوظيفي الممنهج في إيصال الكفاءات المؤسسية إلى مواقع القيادة الإدارية، إذ لا تزال معظم نظم المؤسسات تعتمد على الموجهات التقليدية في إسناد القيادة مثل الأقدمية العملية، والارتقاء في سلّم المهام الإدارية، مما يسبب هدرًا للمواهب القيادية التي لا تستوفي هذه المتطلبات، وأظهرت دراسات علم النفس السلوكي أن أحد الأسباب وراء تراجع دور التدريب والتأهيل في بناء قيادات إدارية يعود إلى اللبس السائد بشأن الوعي الذاتي بماهية الأدوار القيادية، والتي أدت بدورها إلى تعميق المفهوم النمطي للتطلعات الوظيفية التي تتمحور حول الوصول للمنصب الإشرافي كوجهة حتمية يسعى الموظف لأجلها، ومن بعدها يعد الانخراط في التعلم وبناء المهارات أمرًا كماليًا، ويغفل بأن التعلم المستمر بحد ذاته هو إحدى مزايا وسمات القائد الناجح الذي لا يتوقف عن البحث عن معارف جديدة، ومواكبة التغييرات والمستجدات حوله.

إن هدر المواهب القيادية من أهم النقاط العمياء التي تعترض فلسفة العمل المؤسسي المعاصر، ففي الوقت الذي تسعى فيه المدارس الفكرية في الإدارة إلى تأصيل الهياكل المؤسسية التي توثق خرائط العمل والممارسات والعمليات، وتضع أطرًا واضحة لكل الإجراءات، ثم تفرض عليها حوكمة رشيدة لضمان تطبيقها على النحو المطلوب، تظهر بين الحين والآخر تحديات في جوانب غير ملموسة ولكنها ذات أهمية كبيرة، من حيث الحاجة لوجود اتجاهات استراتيجية ذكية تحقق أهدافا ذات أثر بعيد الأمد، وهذه الاتجاهات ليست في الحقيقة مناورات للتنصل من تطبيق الإجراءات المؤسسية، ولكنها مخارج تتيح لفرق العمل وللمؤسسات فرصة الاحتفاظ بالمواهب القيادية، وإتاحة الفرصة المهنية الداعمة لإبرازها، وعلى سبيل المثال يمكن للمؤسسات تنفيذ اختبارات تقييم الشخصية للدفعات المستجدة في العمل من أجل الاكتشاف المبكر للمواهب القيادية وتعزيزها، أو وضع نقاط اكتشاف المواهب في مهام معينة بحيث يعكس الواقع العملي للأداء هذه المواهب، ويدعم رسم اتجاهات وظيفية متعددة للتطوير الذاتي.

دعونا نبدأ بثقافة العمل المؤسسي التي لم تنصف محور التطوير المنهجي للقيادات الإدارية والتقنية، نجد بأن شريحة لا يستهان بها من قادة الفرق والمشاريع تتوقف عن التطوير الذاتي وتعلم مهارات ومعارف جديدة بمجرد الوصول للمواقع القيادية، من منظور الوصول للوجهة النهائية للطموحات المهنية، وهنا تكمن مصادر التحديات التي تواجه قادة العمل المستجدين، فحصيلة المعرفة والخبرة والتجارب والحكمة تنفذ مع الوقت، ويجد القائد نفسه أمام تحديات مستعصية على مفاتيح الحل لديه، فمن على دفة القيادة يتغير المشهد الإداري بشكل جذري، فما كان بالأمس تحديا روتينيا قد يصبح من بين المخاطر الحاسمة التي تعترض سبيل تحقيق النجاح، فإذا بقي قائد العمل على نهجه القديم فهو لن يتمكن من وضع المعالجات المطلوبة، والمخرج الملائم هنا هو أن يفكر قائد العمل جديًا في بناء القدرات كأولوية قصوى، ليس لنفسه وحسب وإنما لجميع فريق العمل، فتقادم المعرفة والخبرة تفرزان التحديات الأخرى، إن وجود خطط عمل، وممارسات التعامل مع المخاطر المهنية لا يغني عن أهمية التعلم المستمر والبحث عن التجديد والابتكار، ليس من باب الاطلاع والمواكبة السطحية، وإنما كثقافة راسخة، وجزء أصيل من عمل المؤسسة، وهكذا يتبين بأن المواقع القيادية ليست وجهة نهائية للموظف ولكنها جزء ومحطة من رحلته المهنية.

وهذا يقودنا للسؤال الأهم: ما الوقت المناسب للقادة لبدء التطوير الذاتي؟ وكيف ينظر متخذو القرار إلى محور التطوير الوظيفي باعتباره من العمليات المتطلبة من ناحية الوقت والموارد المالية؟ إن جميع المؤسسات على اختلاف أحجامها ومهامها تحتاج لخطة مؤسسية طموحة تدعم بناء المهارات القيادية على نحو استباقي، وتستهدف جميع الموظفين ولكن بدرجات متفاوتة، مهارات القيادة السليمة واتخاذ القرار ليست حكرًا على منتسبي الإدارة العليا والقيادة، فأعضاء الفرق التنفيذية بأمسّ الحاجة لمهارات التخطيط والتنفيذ، واتخاذ القرار، وقبل كل هذا إن الموظفين باختلاف درجاتهم الوظيفية هم بالأساس قادة في حياتهم الشخصية والأسرية، وتعميم الاستفادة من بناء المهارات القيادية يترك أثرًا إيجابيًا على جميع الموظفين، ويرفع من حس الولاء والانتماء المؤسسي، وبذلك يتلقى جميع منتسبي المؤسسة جرعة مناسبة من المعلومات القيادية، وتدخل المؤسسة مرحلة بناء الخبرات التشاركية، وهي عملية مكلفة ماديا ولكنها فعالة جدًا من منظور توفير دورات تدريبية تخصصية مكثفة وموجهة لبناء القيادات قبل الوصول فعليًا لموقع القيادة، مع الفهم الواعي بخصوصية بناء المهارات القيادية لكونها تحتاج إلى عنصري التراكمية والانتقائية، فالدورات يجب أن تكون بنائية وبالتعاقب، وكذلك لا بد من تعريف متطلبات التدريب حسب الفئات الوظيفية، ووفق موقعها على سلم القيادة الإدارية.

وبالنظر في تجارب المؤسسات الرائدة نجد بأن السمة الغالبة هي ارتباط مسؤولية تعزيز بناء القيادات وتأهيلها بالدورات التطويرية على المؤسسات، لضمان الوصول للكتلة الحرجة من قادة المشروعات وفرق العمل المؤهلين الأكفاء في تسيير مهامها وأعمالها بالشكل المنشود، حيث تعكف المؤسسات الرائدة على التغلب على النقاط العمياء في هدر المواهب بالتركيز على استكشاف الموظفين الذين لديهم سمات قيادية واعدة، وذلك من خلال مواقفهم اليومية، وعاداتهم المهنية، وتجاربهم السابقة، وسيرهم الذاتية، وأسلوب العمل مع أقرانهم ومع المسؤولين، وهي حجر الأساس في بناء القيادات المؤسسية عبر آليات ومنهجيات التنمية البشرية، ولكن هذا لا يعني أن يؤدي الموظف دور المستفيد بشكل كامل، فهناك العديد من المسؤوليات الضمنية التي يمكن أن تسهم بشكل كبير في دعم القيادة الإدارية داخل المؤسسة، ومع الشركاء والمستفيدين خارجها، وتأتي في المقدمة المبادرة من جهة الموظف بالالتزام بالتطوير الذاتي في حدود الإمكانات المتاحة لديه في واقع بيئة العمل، وذلك عن طريق اتخاذ القرار في وقت مبكر من الحياة المهنية فيما إذا كانت وجهة الموظف نحو الأدوار الإشرافية والقيادية، أو أنه يفضل الأدوار التقنية والإدارية المساندة، ومن بعدها تبدأ مرحلة تعريف الاتجاهات الاستراتيجية للوصول لهذه الوجهة، وذلك عبر التقييم الذاتي للخروج بمجموعة نقاط التطوير الحاسمة، بغض النظر عن مدى إتقان الموظف للعمل القيادي، وشغفه بهذا الدور، إلا أن الدورات المنهجية هي ضرورة لا غنى عنها، وبذلك يتم تحديد هذه الدورات، والبحث عن موارد لتمويلها، ولا بد من التذكير هنا بأن قلة الموارد ليس العامل الأكبر في عدم حصول القياديين المستجدين على الممكنات المطلوبة، فالعامل الأهم هو عدم وضوح الاتجاهات الصحيحة في بناء المهارات، وغياب الممارسات في تقييم الكفايات القيادية بشكل عميق وموضوعي.

دعونا نعود للسؤال المركزي هنا وهو متى تحدث عملية التعلم والتطوير وفيها تكمن النقاط العمياء في هدر مواهب القيادة الإدارية، هناك مقولة إدارية شهيرة مفادها: إن الحلم والطموح المهني للوصول للمواقع القيادية هو أمر متاح ومجاني لجميع الموظفين، ولكن رحلة تحقيق هذا الحلم أمر مختلف تمامًا، فالتعلم الحقيقي لا يحدث قبل خوض الرحلة، وكذلك لا تغيير يحدث بعد الوصول للوجهة المنشودة، إن الميزة الفريدة لرحلة كل مُبادر هي التي تحمل كل الدروس والعبر والأسرار الأصيلة في الإنجاز، ولذلك فإن الهدر في المواهب القيادية يعود إلى عدم الالتفات لتفاصيل هذه الرحلة التي تتبلور فيها المواهب، ويتم تأطيرها بالخبرة والمعرفة الضمنية، وهي البصمة الفارقة التي تكسب حاملها تلك الميزة المتفردة، ولذلك يجب البحث عن توجهات رحلة بناء القادة، وعدم الاستعجال في بلوغ الوجهة التي يتطلع إليها ذوو السمات القيادية، مع الالتزام بالتعلم المستمر، والإدراك الكامل بأن الوصول للمرونة الاستراتيجية يتطلب البحث عن مخارج ذكية للهياكل التنظيمية القائمة لتجاوز النقاط العمياء، والاستفادة من اتجاهات رحلة الوصول للحلم المنشود.