بين الحلم والحقيقة خيال
10 نوفمبر 2025
10 نوفمبر 2025
أثار فوز زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك الفرح والتهليل عند كثيرين؛ فتعددت العناوين في الصفحات الشخصية والصحف المستقلة والرسمية، حتى أصبح يحتل جزءًا كبيرًا من العناوين التي تنطلق من منطلقات مختلفة، ليس في المجتمعات والدول العربية فحسب، بل في المجتمعات والدول الإسلامية كذلك بين من ينسبه لهويته الدينية، أو هويته المذهبية، أو هويته الإثنية، بل هوية زوجته!
وهذا النمط ليس جديدًا، بل يتكرر مع أكثر، إن لم يكن كل شخصية ذات أصول إسلامية تصل لمنصب ما في الدول الغربية مرفقة بحالة من الأحلام والتوقعات الضخمة.
إن تحويل الاحتفال بالفوز إلى رمز خلاص أو انتصار حضاري يعاني من إشكال الاختزال وإطباق الأحلام على الواقع؛ بحيث يُنظر لأي شخص في أي سياق أو منظومة على أنه يُمكن أن يمثل هذا الانتصار الحضاري للهويات المختلفة، حتى ليصبح برنامجه الانتخابي عبارة عن تحقيق للأحلام الجماعية، وهذا يتمثل في تحويل هذا الفرد إلى إسقاط جماعي لأحلام التمثيل في مرآة الآخر، فيتم تنصيبه سفيرًا لهويات مختلفة: هوية إسلامية ومذهبية وعربية وهندية وإفريقية، ويجب أن يمثلها جميعها عند الآخر؛ بحيث يوصل الصورة «الحقيقية» المجهولة، لربما يكون ذلك دافعًا للتغيير.
فإذا قُرئ الأمر بهذه الطريقة اتضح الضعف الذي يحمله والشعور بفقدان الأمل في الذات من الأساس فضلا عن طلب الاعتراف من الغرب، أي أن يصل شخصٌ ما ذات هويات مشابهة فإن ذلك يعني اعترافًا إداريًّا واجتماعيًّا على أمل أن يكون اعترافًا هوياتيًّا فيتأثر الآخر بذات الدين أو المذهب أو الهوية ليكون مثله.
ولم تكن حالة زهران ممداني الوحيدة، بل تكررت أكثر من مرة في نمط واضح عند أوباما «أمل الجنوب والعالم الثالث»، وصادق خان «المسلم الأول في منصب عمدة لندن»، والآن ممداني. والأمثلة كثيرة التي يُحتفى بها بناء على هذا الأساس؛ بحيث يكون النمط هو الفرح الأولي المبالغ فيه في البداية، ثم صدمة مع الوقت حين تتضح الحدود الواقعية للنظام الذي يشغل فيه هذا الشخص موقعًا، أو مسمارًا في آلة ضخمة.
هذا الأمل لا يخدم المرشّح كما يُعتقد إلا في برنامجه الانتخابي وقبل الوصول للمجلس فحسب؛ إذ إنه يحمله عبئًا سياسيًّا يتعلق بالأحلام الكبرى لأعداد كبيرة ومختلفة من الناس الذين يتحولون في نقطة ما من مؤيدين متحمسين جدا إلى ساخطين ينقدونه على عدم تحقيقه لأحلامهم المرتبطة بهوياتهم.
إن النظام السياسي في العموم -وخاصة إذا ارتبط بدولة مؤسسات- فإن التغيير البنيوي فيه يكون صعبًا، ويتطلب جهودًا جماعية وزمنًا معتبرًا. فتحميل شخصية واحدة إمكانية تغيير هذا النظام أمرٌ حالم؛ إذ هو قائم على توازنات معينة وهيمنة مالية وثقافية وسياسية معينة أيضًا، فالتغيير الجذري غير ممكن في وقت قصير مثل الفترة التي يقضيها الشخص في منصب واحد.
هذه الاحتفالات الكثيرة والهوس بإسقاط الهويات على عمدة مدينة أمريكية -أو أي منصب آخر غربي يرتبط بذات الهوية ويحتفى به لأصوله - يكشف ـ بالنسبة لكاتب هذا المقال على الأقل ـ أن أمريكا والعالم الغربي عمومًا لا يزال مركزيًّا في خيال الكثيرين، حتى في الوقت الذي يتم فيه انتقاد «الغرب» فإنه يهتم به ويعود إليه بآلية غير واعية.
وبمحاولة تفكيكية للمسألة يُمكن القول: إن غير المركزي في خيال ما لا يُهتم به إلا بمقدار ما يعرف عنه أو يدرسه فقط. أما الاهتمام والاحتفاء أو الانتقاد لكل ما يحدث فيعبر عن التمركز المزاحَم بتمركزات أخرى في الوقت ذاته. وهي في الجانب الآخر تشكّل دلالة على البحث عند العالم الغربي عن الجدارة والتأثير، وإمكانية الهوية الوصول إلى «قلب أمريكا الرأسمالي والإمبريالي الصهيوني... إلخ»، وفي الوقت ذاته؛ الزهد في مشكلاتنا التي نعيشها أساسا أيًّا كانت ما يصبح شكلاً من الانفصال التام عن الواقع المعاش والعيش في واقع يتم تخيُّل فيه إمكانية أن يكون العالم كله بذات الهوية، وأهمية الاحتفاءات التي تنطلق منا، والانتقال من حلم إلى آخر دون النظر إلى ما يعيشه الإنسان العادي في هذه المجتمعات من مشكلات على اعتبار أنه بوصول شخصية مثل هذه إلى منصب عمدة في إحدى مدن أمريكا يُمكن أن يكون قادرًا على تغيير هذا الواقع البائس.
فضلا عن ذلك؛ هذا كله يكشف عن مسألة فكرية أخرى، وهي التناقض الفكري بين نقد الغرب المستمر دولة ومجتمعًا وهوية وتفكيرًا وغيره، وفي الوقت ذاته الاحتفاء بالاعتراف الذي يمنحه لشخص يُمكن أن يشكل التمثيل الرمزي، فاعترف بالنظام الديمقراطي الغربي؛ لأنه سمح لشخص ما من «الهامش» أن يصل إلى منصب.
في هذا يتضح عدم الاتساق الفكري والتناسق بين الفكرة والأخرى؛ فالجملة الأولى تنقد الغرب كله في سلة واحدة على أنه سيئ، وفي الجملة الأخرى تعترف أنه قادر على أن يكون جيدًا؛ لأنه أوصل من هو من ذات الهوية إلى منصب ما، وغير مهم أفعال هذا الشخص إن كانت متوافقة مع هويته التي يدعيها أم لا، أو يتوافق مع هوية المحتفي أم لا، بل المهم أن أصوله تعود لذات الأصول، وشكله يقترب من ذات الأشكال، وقد سمح له النظام؛ وبالتالي هذا شيء جيد. مما يدل على إشكالية في البناء العقلي في التعاطي مع الأمر؛ إذ يُجتزأ منها جزءٌ صغير يتم تركيز الحلم عليه، وترديده منزوعًا من السياق الكامل والإطارات العامة التي لا يُمكن فهم الصورة إلا بالنظر إليها جميعًا. وبالنسبة لممداني؛ فإن هذه الأجزاء الصغيرة تختلف باختلاف الجهة التي تحتفي به أحيانا يكون دينه، وأحيانا مذهبه، وأحيانا إثنيته أو إثنية زوجته، أو اختزاله في نتاج أبيه وأمه. وعلى الرغم من أن هذه الأجزاء لا يُمكن نزعها من الصورة العامة، إلا أنها تبقى أجزاء فقط، وليست الصورة؛ فانتزاعها والتركيز المفرط عليه يفصل الخيط الواضح بين الحقيقة والحلم.
