بين الاستراتيجيات وأجندة السياسات: أين خط التعادل؟

19 ديسمبر 2023
19 ديسمبر 2023

في نهاية العام تسعى المؤسسات - على اختلاف أنواعها وأحجامها ومجالات تخصصاتها - إلى وضع خطط العمل للعام القادم، وتطوير السياسات التوجيهية لدعم تنفيذ هذه الخطط، ولكن سيناريوهات التنفيذ لا تأتي أحيانًا كما تشتهي السفن، فيبدأ المخططون بالبحث عن مسارات أخرى للوصول إلى الأهداف المنشودة، والسؤال الأكبر الذي يواجه متخذي القرار هو: هل تحتاج المؤسسة إلى استراتيجية جديدة، أو أن الوضع بحاجة إلى أجندة سياسات موجهة لدعم التنفيذ؟ في البدء لا بد من التأكيد على أن التغيير ليس غاية في حد ذاته، بل هو وسيلة لتحقيق أهداف تنظيمية وثقافية وإدارية، وتطوير العمل المؤسسي يتطلب رؤية أوسع لأهداف المؤسسة وبشكل متزامن مع كل من استراتيجيات العمل، والسياسات الداعمة لها، والثقافة المؤسسية، ولكن نماذج القيادة الإدارية التقليدية غالبًا ما تغفل عن أهمية التحليل المنهجي والعميق لاحتياجات المؤسسة من منظور استراتيجي وتكتيكي معًا، ولذلك فإن القرار النموذجي يجب أن لا يرجح كفة على أخرى؛ بمعنى أنه لا يجب على متخذ القرار أن يفاضل بين إعداد استراتيجية أو وضع أجندة سياسات، وإنما يجب تحديد نقطة التعادل التي تضمن وجود استراتيجية طموحة تدعمها أجندة السياسات الدينامكية وذات التأثير الإيجابي.

وهذا يقودونا إلى السؤال الأبدي: ما الفرق بين الاستراتيجية والسياسة؟ وهل هما عالمان منفصلان أو أنهما ذراعان لأصل واحد؟ إذا أردنا أن نبّسط هذه المفاهيم بصورة عملية فإن الاستراتيجية في الأساس هي مزيج من التحركات المؤسسية المُصممة بشكل مرن وتفاعلي، والتي من خلالها يمكن للمؤسسات وفرق العمل تحديد الوجهة البارزة لأعمالها وعلاقاتها مع الشركاء والمستفيدين، وهي وثيقة عمل مرجعية ينبغي صياغتها بشكل تشاركي، ثم اعتمادها من الإدارة العليا داخل المؤسسة، وأحيانًا تمتد متطلبات الاعتماد لتشمل مؤسسات أخرى ذات الصفة التشريعية على المستوى الوطني، ومع تعدد المزايا التي تقدمها الاستراتيجية لأعمال المؤسسة إلا أن الهدف الرئيس من وضع الاستراتيجيات هو تحقيق أفضل استخدام ممكن للموارد المؤسسية، وديمومة قيادة العمل في الحالات الطارئة والاستثنائية أو عند تدني مستوى وضوح معالم المستقبل، ومن هنا تكتسب الاستراتيجية أهمية توفر المنظور بعيد المدى، وتمنحها الهيكلة المميزة لها لكونها «وثيقة بيان».

في الجهة المقابلة تعد السياسة بمثابة «وثيقة مهام»، وهي في الإجمال عبارة عن مجموعة من المبادئ والقواعد التي توجه قرارات المؤسسة، ويتم صياغة أجندة السياسات من قبل الإدارة العليا للمؤسسة لتكون بمثابة دليل إرشادي لاتخاذ القرارات الاستراتيجية والتشغيلية مع مراعاة كاملة ودقيقة للثقافة المؤسسية والقيم الموجهة للأعمال، وهناك سياسات مؤسسية يمتد تأثيرها ليشمل مؤسسات أخرى وهنا تبع الحاجة لوضع السياسات الوطنية التي يمكنها قيادة أعمال مجموعة من المؤسسات التي تقع مهامها ضمن نطاق هذه السياسة، ويأتي تصميم أجندة السياسات من خلال الاستئناس بآراء وخبرات وحكمة مجموعة منتقاة من أصحاب الخبرة السابقة، والفهم الأساسي، والحكمة، والنظرة المستقبلية بالإضافة إلى تحليل البيانات والإحصاءات وتجارب المؤسسات الأخرى، وبذلك تعزز السياسات تنفيذ الأهداف الاستراتيجية لتأمين استدامة مرحلة التنفيذ دون ازدواجية أو تناقضات وتداخل في المسارات التنفيذية.

وعليه فإن السياسات هي جزء لا يتجزأ من الاستراتيجيات، والفارق الحقيقي هو أن الاستراتيجية هي خطة عمل بينما السياسة هي مبدأ العمل، وتركز الاستراتيجيات على أدوات تنفيذ الأهداف ومراجعتها وتقييمها وقياس أثرها، في حين أن السياسات موجهة نحو اتخاذ القرار، فالاستراتيجية هي أفضل خطة تم اختيارها من بين عدد من الخطط التي يمكنها تحقيق الأهداف والغايات التنظيمية، ويمكن تعديلها حسب المستجدات والمتطلبات فهي ديناميكية بطبيعتها، لكن السياسة هي مجموعة القواعد واللوائح المرجعية المشتركة، والتي يتم تشكيلها كقاعدة لاتخاذ القرارات المؤسسية، وهي ليست قابلة للتغيير المستمر لكون السياسات موحدة بطبيعتها، ولكن يمكن إجراء التعديلات في المواقف الطارئة والحالات غير المتوقعة.

وهنا سؤال يطرح نفسه؛ إذا كانت الاستراتيجية هي الخطة المثلى التي تم ترجيحها من بين عدة سيناريوهات فهل هناك استراتيجية جيدة وأخرى سيئة؟ يجيب على هذا السؤال كتاب المفكر الإداري ريتشارد روميلت الذي يحمل عنوان «الاستراتيجية الجيدة والاستراتيجية السيئة: الفرق والأهمية»، ويعد هذا الكتاب إسهامًا كبيرًا في علوم الاستراتيجية من حيث الطرح المنطقي والعميق لمحور وضع الخطط الفاعلة والداعمة للأهداف التنظيمية، ووفقًا لروميلت، فإن الاستراتيجية الجيدة «هي مجموعة متماسكة من التحليلات والمفاهيم والسياسات والحجج والإجراءات التي تستجيب لتحدٍ عالي المخاطر»، وهي ليست منفصلة عن السياسات، فهي كلٌ متكامل من خطة العمل المدعومة بالحجج المقنعة إداريًا، ومزيج فعال من الفكر والتنفيذ في بنية واحدة أساسية أطلق عليها روميلت مصطلح «النواة» التي تمثل المركز الأساسي لجوهر الاستراتيجية المكونة من ثلاثة عناصر وهي التشخيص، والسياسات الإرشادية، والإجراءات المتماسكة.

أما التشخيص الذي يعد أول المكونات فوظيفته هو شرح طبيعة التحدي الذي ألزمت وفرضت وجود الاستراتيجية، ويحدد التشخيص جوانب الوضع الحاسمة، والعوائق التي يتعين التغلب عليها، وبعبارة أبسط هو يجيب على محور: «ما الذي يحدث هنا؟» ويزعم روميلت بأن أغلب التغيرات الاستراتيجية العميقة إنما تأتي نتيجةً لنجاح مرحلة التشخيص؛ لأنها ترفع لمتخذ القرار الصورة الواقعية للوضع الراهن كما لم يرها من قبل، مما يحفز التغير في الكيفية التي يتم فيها تقييم الوضع ومعالجة المعوقات من منظور مختلف، ثم تأتي السياسات الإرشادية لتضع خيارات متنوعة وواسعة للتعامل مع التحدي ضمن نهج شامل للتعامل مع العقبات التي تم تحديدها في مرحلة التشخيص أو التغلب عليها، ويشتمل دور السياسات في التوجيه الذكي لمجموعة الإجراءات المحتملة، وبدون سياسة توجيهية جيدة لن يكون لدى متخذ القرار الرؤية الواضحة من مبدأ ترتيب الأولويات وفق التركيز الاستراتيجي المطلوب، والذي يتطلب تعريف الإجراءات المتماسكة لتنفيذ السياسة التوجيهية، وهذا يعني أن الإجراءات المتخذة والموارد المخصصة للمبادرات التنفيذية، والسياسات، والمناورات الاستراتيجية لابد أن تكون متسقة ومتناغمة.

وفي الإجمال فإن الاستراتيجية الجيدة هي تلك التي تتضمن تسخير نقاط القوة لتحقيق الهدف الرئيسي من إعدادها، ولكن إذا كان تحقيق الأهداف الاستراتيجية والتشغيلية بنفس صعوبة وضع المعالجات للتحديات التي ألزمت إعداد الاستراتيجية، فذلك مؤشر واضح بأنه لن تكون هناك قيمة مضافة من تنفيذ هذه الاستراتيجية، وهذا يضعنا عند أهم مصادر الإخفاق وهي مدى واقعية وجدية الأهداف الموضوعة، وحسب كتاب روميلت فإن جميع الاستراتيجيات التي لم تنجح في التنفيذ تكون إما من نوع «أهداف عشاء الحيوانات الأليفة» أو «أهداف السماء الزرقاء»، ويعكس المصطلح الأول الأهداف المستمدة من القائمة الطويلة لتطلعات واقتراحات الإدارة العليا، والتي غالبًا ما يتم تسميتها بشكل خاطئ على أنها استراتيجيات أو أهداف، ولقد تمت استعارة هذه التسمية الفكاهية من كون أن مربي الحيوانات الأليفة يضعون كل ما تبقى في المائدة دون اختيار محدد، أما أهداف السماء الزرقاء فتعتبر الأكثر شيوعا وهي عبارة عن الطموح اللامحدود الذي لا يمكن أن يحظى بفرصة للإنجاز على ضوء الموارد والكفاءات المتاحة، وهي غالبا ما ترتبط بالقادة الكاريزميين الذين يخلطون بين الرؤى والطموح ودوافع التغيير وبين الأهداف الاستراتيجية، مما ينتج عنه ما يسمى اصطلاحاً استراتيجية «نمط القالب» والمتمثلة في ملء الفراغات الموجودة في القالب، والخروج بوثيقة منمقة ولكنها بعيدة كل البعد عن تلبية متطلبات المؤسسة.

الاستراتيجية الجيدة هي نتاج عمل فكري عميق يضع في الاعتبار أن امتلاك استراتيجية لا يعني تدوين تطلعات مجردة وإنما التركيز على مسارات ذات أولوية، والالتزام بقول «لا» لمجموعة كبيرة ومتشعبة من الآمال والأحلام والرؤى ذات الطموح اللامحدود، وإدراك أنه لا توجد مفاضلة بين إعداد استراتيجية أو الاكتفاء بوضع أجندة للسياسات لأنهما توأمان متلازمان لا ينفصلان، وأن الأثر الاستراتيجي الإيجابي ينشأ من مزيج من التحليل المبني على الحقائق الواقعية، والحكمة والنظرة الثاقبة لما هو أكثر أهمية في المستقبل، وما هو مهم دائما، وما له أهمية في موقف ما، ثم التصميم الهادف للسياسات والإجراءات المتكاملة والمنسجمة مع توظيف الموارد الاستراتيجية التي تدعم بذل الجهد المركز دون ازدواجية، ودون الحاجة إلى وضع مقايضات بين مسارات تحقيق الأهداف والموارد المتاحة لها، مما يسهل مهمة اتخاذ القرار، فالاستراتيجية الناجحة هي تلك التي يضعها المخططون الاستراتيجيون الذين لا يرسمون الحدود بين الاستراتيجيات والسياسات، وإنما يصممون الجسور التي تملأ الفجوات فيما بينهما، وتحقق الترابط والتكامل والتوافق التي تعتبر مطلبا أساسياً لتنفيذ الأهداف.