بند الحماية الاجتماعية في الميزانية العامة
شدني ما ورد من أرقام في تقرير الأداء المالي للربع الثاني من العام الحالي الصادر عن وزارة المالية إلى الكتابة عن شيء مما جاء فيه، لأن الأرقام والإحصاءات تسثير الفضول وتغري بقول شيء عنها. لن يكرر هذا المقال ما جاء في عناوين وتحليلات الصحف حول التقرير، بل سيركز على موضوع واحد هو بند الإنفاق على الحماية الاجتماعية لما لهذا الموضوع من أهمية من النواحي الاجتماعية والاقتصادية والمالية، بل والسياسية. وحيث إنه موضوع على درجة عالية من الأهمية لكل الناس فإن كثيرا من الدول في العالم تحرص على أن لا يتم أي تعديل فيه إلا بعد نقاش مستفيض، ليس على مستوى السلطتين التنفيذية والتشريعية فقط وإنما أيضا على المستوى الشعبي.
لا بد أولا من التنويه بالتقرير، لا سيما من حيث تبويبه ووضوح محتواه وانتظام صدوره، وذلك مما يحسن من مستوى الشفافية المطلوبة في المجال المالي ويجعل كثيرا من المعلومات المالية متاحة للجميع.
وحيث إن هذا المقال يركز على الإنفاق في قطاع الحماية الاجتماعية، فإنه لا بد أولا من التطرق إلى ما جاء في التقرير عن الميزانية بشكل عام من حيث الإيرادات والمصروفات، ولكن دون تفصيل، وبأرقام تقريبية وذلك من أجل التسهيل على القراء. أظهر التقرير أن الإيرادات في الميزانية العامة لسلطنة عمان لها أربعة مصادر، هي النفط الذي يعتبر أهم المصادر وأكبرها، وقد بلغت الإيرادات منه بنهاية الربع الثاني من العام الحالي ما يزيد قليلا على 3 مليارات ريال، تليه الإيرادات الجارية التي بلغت حوالي ملياري ريال ثم إيرادات الغاز ومقدارها حوالي 884 مليون ريال وأخيرا الإيرادات والاستردادات الرأسمالية وقد بلغت حوالي 9 ملايين ريال، أي أن مجموع الإيرادات العامة خلال النصف الأول من العام الجاري بلغ حوالي 6 مليارات ريال.
اللافت أن الإيرادات الجارية، وهي تشمل الضرائب بأنواعها والرسوم الجمركية وغيرها، قد زادت عما كانت عليه خلال الفترة نفسها من العام الماضي، في حين انخفضت إيرادات النفط والغاز وكذلك الاستردادات. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ارتفاع نسبة الإيرادات الجارية في الميزانية يعكس الجهود الهادفة إلى تقليل الاعتماد على النفط وتنويع الإيرادات. أما في جانب الإنفاق فقد أظهر التقرير أنه بلغ في نهاية الربع الثاني من العام الحالي ما يزيد قليلا على 6 مليارات ريال، منها حوالي 4 مليارات ريال للإنفاق الجاري وحوالي 700 مليون ريال للإنفاق الإنمائي وما يزيد قليلا على 1 مليار ريال للمساهمات والنفقات الأخرى. يظهر التقرير كذلك أن الإنفاق على القطاعات الاجتماعية والأساسية قد بلغ حوالي 3 مليارات ريال، 52% منها للتعليم و21% للضمان والرعاية الاجتماعية و19% للصحة و8% للإسكان.
قبل البدء في تناول موضوع الإنفاق على الحماية الاجتماعية، لا بد من الإشارة إلى أنه قبل قيام الدولة الحديثة في عمان كانت الحماية أو الرعاية الاجتماعية تقوم على أساس التكافل بين أفراد الأسرة الواحدة وداخل المجتمع، وعلى الزكاة أو الصدقات وعلى الأوقاف المخصصة لفئات معينة من المحتاجين والفقراء. ومع بداية النهضة الحديثة أنيطت تلك المهمة تدريجيا إلى وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل. لم يكن في عمان حينها نظام للتقاعد أو للتأمين الاجتماعي، لكنه بعد ذلك، وعلى مدى عدة سنوات تم إنشاء عدة صناديق للتقاعد، بعضها للقطاع المدني الحكومي والخاص، وأخرى للقطاعات الأمنية والعسكرية. أما الضمان الاجتماعي فقد بقي ضمن اختصاصات وزارة الشؤون الاجتماعية ولاحقا وزارة التنمية الاجتماعية.
وفي حين كانت صناديق التقاعد تمول من مساهمات العمال أو الموظفين ومن أصحاب الأعمال أو المشغلين، فإن الضمان الاجتماعي كان يمول بالكامل تقريبا من الميزانية العامة للدولة. وفي سنة 2021 اعتمدت الحكومة منظومة جديدة للحماية الاجتماعية تم بموجبها دمج صناديق التقاعد في صندوقين، واحد للقطاع المدني وآخر للقطاع العسكري والأمني كما تم تحويل مسؤولية الإنفاق على الضمان الاجتماعي لتكون ضمن منظومة الحماية الاجتماعية.
تشمل هذه المنظومة فرع التأمين الاجتماعي الذي يمول من قبل العامل والمشغل، ويتم بموجبه صرف معاش تقاعدي للعامل عند استحقاقه للمعاش. كما تشمل المنظومة أيضا المنافع الاجتماعية، وهي منفعة كبار السن، ومنفعة الطفولة، ومنفعة الأشخاص ذوي الإعاقة، ومنفعة الأيتام والأرامل، ومنفعة دعم دخل الأسرة.
وبالعودة إلى تقرير الأداء المالي للربع الثاني من العام الحالي، فإنه يظهر كما أوضحنا أعلاه أن الإنفاق على الحماية الاجتماعية قد بلغ ما نسبته 21% من مجموع الإنفاق على القطاعات الاجتماعية والأساسية. وإذا أضيف إلى الإنفاق على الحماية الاجتماعية الإنفاق على قطاع الإسكان، وهو قطاع قوي الارتباط بالحماية الاجتماعية، فإن نسبة الإنفاق عليهما معا ستصل إلى حوالي 29%. ربما تكون هذه النسبة طبيعية في الدول ذات الاقتصادات الكبيرة والمتنوعة أو في الدول التي لها تركيبة سكانية مختلفة، لكن هذه النسبة عالية في دولة مثل سلطنة عمان التي لا يزال حجم اقتصادها صغيرا وعدد سكانها، بمن فيهم الوافدون، حوالي 5 ملايين إنسان، أكثرهم دون سن العمل وفوقه. كما أن معاشات التقاعد لا تدخل ضمن هذه النسبة، لأنها لا تصرف من الميزانية العامة وإنما من صناديق التقاعد التي هي ضمن منظومة الحماية الاجتماعية.
ليس الهدف من الكتابة عن موضوع الإنفاق على الحماية الاجتماعية الدعوة إلى تقليص فئات المستحقين لها، بل إنه قد تكون هناك فئات أخرى من المجتمع تطالب بأن تشملها منافع المنظومة، ومنها فئة العاطلين أو الباحثين عن عمل. كما أن الهدف ليس الدعوة إلى تخفيض المبلغ الذي يصرف لكل فرد أو أسرة تقع ضمن الفئات المستفيدة، فهو مبلغ زهيد قد يساعد على سد شيء من الحاجات اليومية للأفراد والأسر، لكنه لا يكفي لسد المتطلبات المتزايدة للعيش الكريم. الهدف من الكتابة عن هذا الموضوع التنبيه إلى أنه مع زيادة النمو السكاني وبقاء معدل النمو الاقتصادي منخفضا وفرص العمل محدودة، فإن ذلك سيؤدي إلى زيادة مستمرة في أعداد من يحق لهم الاستفادة من منظومة الحماية الاجتماعية، وهو ما سيستدعي زيادة الإنفاق المخصص للمنظومة بشكل قد لا يتناسب مع الزيادة في إيرادات الميزانية.
وفي ظل الأوضاع الاقتصادية الحالية فإن زيادة الإنفاق على الحماية الاجتماعية قد تكون على حساب الإنفاق على قطاعات أخرى مهمة، على رأسها قطاعات التعليم والصحة والبنية الأساسية. لذلك لا بد من التنبه إلى هذا الموضوع، والعمل على إيجاد حلول تركز على تحسين الإيرادات بتوسيع قاعدة الاقتصاد وتنويعه وبما يزيد من فرص العمل الجديدة، من أجل تقليل الضغط على منظومة الحماية الاجتماعية.
هذا في الجانب الاقتصادي والمالي، أما في الجانب الاجتماعي فهناك حاجة إلى دراسة الفئات المشمولة بالحماية الاجتماعية. إن دراسة الجانب الاجتماعي للفئات المستفيدة ستظهر أمور قد تحتاج إلى معالجات مختلفة، بعضها ذات طابع مالي أو اقتصادي وبعضها الآخر ذات طابع اجتماعي أو صحي.
لا شك أن هناك فئات من المجتمع ستبقى بحاجة لأن تكون مشمولة بمنافع الحماية الاجتماعية، مثل الأطفال والأيتام وذوي الإعاقة. لكن هناك فئات أخرى يمكن مساعدتها للخروج من منظومة الحماية، مثل الأسر ذات الدخول المنخفضة، وذلك من خلال وضع سياسات وبرامج لتحسين مستوى المعيشة والقضاء على الفقر. وهناك جهود في هذا الجانب على مستوى العالم يمكن الاستفادة منها. تعتبر الصين الشعبية من أبرز الدول التي حققت نجاحا مشهودا في جهودها للقضاء على الفقر، وقد استطاعت تحقيق ذلك النجاح من خلال سياسات هادفة وبرامج واضحة.
إن توفير فرص عمل للقادرين عليه، وتمكين الفقراء من أجل إيجاد موارد رزق دائمة لأنفسهم هما أقصر الطرق للقضاء على الفقر. وفي الحديث الشريف، «خير الصدقة ما أبقت غنى».
د. عبد الملك بن عبد الله الهنائي باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية
