برًا وبحرًا

24 أغسطس 2022
24 أغسطس 2022

الترجمة عن الروسية: يوسف نبيل -

تمتد روسيا البوتينية على نطاق واسع؛ إنها لا تريد أن تكون من الناحية العملية سيدة كل الأراضي الأوكرانية وحسب، بل تريد أيضًا أن تكون ملكة البحر.

يبدو أنه لا توجد دلائل على حدوث انفراجة تتعلق بحقيقة أننا نطلق الآن في كل منعطف كلمة «جيوسياسية» الطفيلية التي لا تشير إلى شيء. كل ما في الأمر أن وجود السفينة الحربية «أوستيوج العظمى» على مسار نهر النيفا غامض، وقد جذبت انتباه المتنزهين على متون قواربهم ومجموعات السكارى الموجودة على متون زوارقها البخارية. ظهر بوضوح الحرفان الأجنبيان Z – V على السفينة، ولسبب ما ارتدى البحارة المناوبون خوذاتهم. كانت أيضًا بروفة استعراضية، وبالرغم من أن العرض كان بحريًا إلا أن نصف شوارع سان بطرسبرج أُغلِقت.

بدأ العرض بإعلان العقيدة البحرية المستحدثة والمستاءة من الغرب مقدمًا. قبل ذلك كانت مداخلة صوتية من جانب ديمتري ميدفيديف تحدث فيها أيضًا عن الجغرافية السياسية (الجيوبوليتيك)، ورسم فيها خريطة صحيحة لروسيا امتدت تقريبًا إلى كامل أراضي أوكرانيا باستثناء بضع مناطق قُسِّمت بين بلدان مختلفة، وقد حصلت بولندا على حصة كبيرة على نحو خاص. يبدو أنه استعار هذا الجزء من خريطة 1938 قبل معاهدة مولتوف-ريبنتروب وحملة الجيش الأحمر التحريرية.

رسم الخريطة البولندية

هذا ما يبدو عليه الآن عالم روسيا حيث يتحرك في جميع الاتجاهات في الأراضي الأوكرانية؛ الأمر الذي يعني عمليًا حربًا أبدية أو حالة تشبه الحرب الدائمة.

ليست المرة الأولى التي يتلاعب فيها الجانب الروسي تلاعبًا كاملا بالخريطة البولندية. ذكر رئيس جهاز المخابرات الخارجية ناريشكين أن بولندا تعتزم غزو غرب أوكرانيا. من ناحية تسيطر السلطة الروسية على الجميع بسبب درجة فسادهم الداعية لليأس، وإذا كانوا هم أنفسهم يريدون انتزاع قطعة من الأرض بحسب منطق القرن التاسع عشر والقرن العشرين، فمن المحتمل أن الجانب الآخر يفكر بالطريقة ذاتها أيضًا. من ناحية أخرى كلما ازدادت السيناريوهات التي تُخترع في هدوء المكاتب من أجل مستهلكي أشكال الدعاية المختلفة جنونًا، ازدادت احتمالية إيمان الجمهور بها.

بالرغم من ذلك، تجاوز ميدفيديف ما قاله ناريشكين؛ فالحدود الأوكرانية بحسب تعريفه قد نشأت نتيجة قبول تصورات فلاديمير زيلينسكي. لكن الخريطة الحقيقية لأوكرانيا المفككة هي من تقييم «المحللين الغربيين» الأقرب إلى الحقيقة. أما من هم هؤلاء المحللون الغربيون، فلا أحد يعلم، وهذا أمر طبيعي لأنه لا وجود لهم في الحقيقة. في هذا السياق أشار ميدفيديف بصفته نائب رئيس مجلس الأمن إلى الخبراء الأجانب على وجه التحديد، لا إلى الخبراء المحليين، وقد فعل ذلك ليحوز قدرًا أكبر من الإقناع؛ فكل شيء غربي يُعوَّل عليه بقدر أكبر مما هو محلي.

بالرغم من الضراوة المتعمدة فيما يتعلق بمداخلة ميديفيديف الجيوبوليتيكية هذه لكنها دالة للغاية. بالنظر إلى تصريح لافروف حول تغيير الأهداف الجغرافية للـ «العملية العسكرية الخاصة» تبدو أفكار الرئيس السابق وكأنها عرض لخطة بوتين الحقيقية المتمثلة في الاستيلاء على أكبر قدر ممكن من الأراضي وتفكيك أوصال أوكرانيا.

هكذا يبدو عالم روسيا؛ يتحرك في كل الاتجاهات عبر الأراضي الأوكرانية. يعني ذلك عمليًا حربًا أبدية أو حالة شبه عسكرية دائمة حتى في حالة إبرام رسمي لمعاهدة سلام وهو أمر يستحيل تخيله اليوم. قال بوتين نفسه مؤخرًا إن التخلي عن محادثات السلام الآن سيجعلها أكثر صعوبة في المستقبل. هذا يعني أمرًا واحدًا: نحن لا نطارد الزمن وسنمضي قدمًا حتى نقرر التوقف.

معركة بحرية

لقد قرر بوتين بالفعل أن يسير على خطى بطرس الأكبر في «إعادة الأراضي الإمبراطورية وتقويتها» والآن حان وقت القطاعات البحرية.

العقيدة البحرية من حيث التهديدات والمخاطر وبقية مثل هذه الموضوعات السامية هي العالم الخيالي ذاته المتمثل في التهديدات المتخيلة لغرب روسيا التي أدت إلى «العملية العسكرية الخاصة». في هذا العالم المتخيل تسعى روسيا جاهدة من أجل سياسة مستقلة، لكن الولايات المتحدة وحلفاءها يحولون بينها وبين تحقيق ذلك برًا وبحرًا. ومن هذا المنطلق تتمثل التحديات والتهديدات الرئيسة للأمن القومي والتنمية المستدامة لروسيا المرتبطة بالمحيط العالمي في عشر عقبات مختلفة. تُذكَر الولايات المتحدة في ثلاث منها؛ على سبيل المثال: المسار الاستراتيجي للولايات المتحدة للهيمنة على المحيطات – رغبة الولايات المتحدة وحلفائها في الحد من وصول روسيا إلى موارد المحيطات (أين بحق الله يحدث ذلك؟ ولماذا؟) وكذلك البنية التحتية للناتو التي اقتربت من شيء ما هناك.

تحدد هذه الجغرافيا السياسية (الجيوبوليتيكا) الغريبة أيضًا مجالات مصالح روسيا في المياه؛ فمن حيث المبدأ تنقسم مساحة البحار والمحيطات بأكملها إلى قسمين: المناطق الحيوية لمصالح الاتحاد الروسي ومناطق أخرى مهمة وحسب. مثلا: تشمل المناطق المهمة الجزء الشرقي من البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود ومضيق البلقان وجزر الكوريل. قد يكون لدى عدد من الدول أسئلة جادة حول مثل هذا التاريخ والجغرافيا.

انتشر الفكر البحري الروسي المعاصر (والبري أيضًا كما رأينا من جانب ميدفيديف) على نطاق واسع، إذ يطلق بوتين وعقيدته البحرية على روسيا: «قوة بحرية عظمى». بدأ الرئيس الروسي في خطابه الرسمي يناشد التاريخ ويحتفي مجددًا ببطرس الأكبر الذي كان أول من جعل روسيا قوة بحرية عظمى، فقد قرر بوتين محاكاة بطرس في «إعادة وتقوية» الأراضي الإمبراطورية، والآن حان دور القطاعات المائية. كل هذه الرغبات من جانب القيادة العليا للجمعية الجغرافية، وكل محاولات إعلان أن القطب الشمالي «لنا».

إن الشغف بمصطلح الجغرافيا السياسة (الجيوبوليتيك) يشير في حد ذاته إلى حجم الادعاءات؛ وكان على روسيا أن تسيطر على مركز الأرض الذي امتد تحديدًا نحو أوكرانيا، وفي الوقت نفسه عليها أن تصير سيدة البحر. أُغرم جميع الأيدولوجيين الإمبرياليين بالمذاهب الجيوبوليتيكية، وجميعهم يرون أن روسيا تفتقر إلى مجالها الحيوي الضروري.

قد يبدو تحول روسيا – حتى من الناحية المفاهيمية – نوعًا من التوحش الجيوبوليتيكي؛ إمبراطورية جديدة تحاكي إمبراطورية قديمة، سيناريو مجنونًا، لكن منطق ميدفيديف حول مستقبل أوكرانيا لا يقل غرابة في حقيقة الأمر عن إطلاق العملية العسكرية الخاصة التي لا تتسم هي الأخرى بأي قدر من العقلانية.

نشوء إمبراطورية في ظل ظروف القرن الحادي والعشرين ليست أمرًا منطقيًا. لكن السلطة الروسية المعاصرة المستعدة الآن لإطلاق معركة بحرية أيضًا، ليست قلقة كثير ًا بشأن هذا الأمر.

أندريه كوليسنيكوف صحفي مدير البرامج في مركز كارنيجي في موسكو.