بديلا.. عن الحروب التقليدية

21 أغسطس 2022
21 أغسطس 2022

"لم يعد مفهوم الـ "حرب" اليوم مفهوما تقليديا لما هو متعارف عليه؛ فهناك تطور نوعي في مفهوم الحرب، وفي الأدوات المستخدمة فيه، وفي النتائج النهائية، حيث بمقدور شخص جالس تحت شجرة في إحدى الغابات أن يتسلل عبر شبكة الإنترنت، ليحدث فارقا نوعيا في تدمير أي منظومة كانت: سياسية، اقتصادية، اجتماعية، تنموية، فيشل حركتها، ويسقطها في الهاوية".

مصطلح الـ "حرب" مصطلح قديم، يعود إلى البدايات الأولى لنشأة الإنسانية؛ حيث الحرص على حياة أكثر تميزا، وحياة أكثر رخاء، وفي خضم هذه الصورة؛ لا يهم أن يتحقق ذلك على حساب الآخر، فالمهم أن تبقى الأنا هي المتسيدة على مشهد الحياة، وتقاس صورة الحرب على المستويين الفردي والجمعي، فليس شرطا أن تتحارب المجموعات حتى تستحق أن يوصف هذا التحارب على أنه حرب، فما يحدث بين الأفراد لذات الهدف هو حرب بكل معنى الكلمة، لأن النتيجة واحدة؛ فالمحصلة (غالب/ مغلوب) أو (منتصر/ مهزوم) وما بينهما مآسٍ من القتل، والتشريد، والجوع، والخوف، وانتهاك الحرمات، والدوس على الحريات، وموت الضمائر، والقسوة، والعنف، والتشريد، حتى تعلق "عباءة الإنسانية؛ والضمير الإنساني" على مشاجب حبل الغسيل، لما تلطخ عليها من الآثام، والذنوب، وانتهاكات لا أول لها ولا آخر للقيم والأعراف، وما تصالح عليه الناس ليكون وسيطا إنسانيا يحافظ على لحمتهم الإنسانية والاجتماعية على حد سواء، وعلى الرغم مما تنتجه الحروب من هذه التداعيات كلها، إلا أن الإنسان لا يزال يمعن الفعل والقول في نفس الاتجاه، دون أن تترك هذه الدماء المراقة على الأرصفة أية بذرة لخوف، أو مراجعة، أو تغيير في الفكر، فلا يزال التصلب في المواقف، والانحياز إلى الخطأ، والانتصار للظلم، وتبين صور الإرهاب بكل أشكاله، ممارسات يقوم بها الإنسان اليوم؛ كما كان في السابق، وسيظل، وحتى إن لم يكن هناك عدو ماثل، سيخلق له أعداء، كل ذلك ليلبي غريزة مشاهدة الموت، والتلذذ برؤية تناثر الجثث في كل الزوايا والبقاع، ومما يؤسف له أن الإنسان ينسلخ؛ وبكل برود؛ من كل معززات إيقاظ الضمير، ناسفا بذلك: تجربة الحياة الطويلة، ومعززات المعرفة، والمآسي التي يتلقاها من هنا أو هناك، وحالات التردي والضعف الإنساني، ويظل ملتحما أبدا مع ثيمة البقاء، وثيمة الانتصار للذات، ولا غير.

تشكل المعرفة أحد المناخات الإنسانية المهمة في حياة الشعوب، وينظر إلى تطورها، وارتقائها في مختلف مجالات الحياة على أنها نقلة نوعية للرخاء؛ نظرا لما تجود به من تقنيات، وأدوات نقلت حياة الإنسان من الممارسات البدائية الأولى إلى مصاف التطورات المذهلة، التي تجاوزت كل الحسابات، والتقديرات التي يضعها الإنسان لتطوره وترقيه، ولكن؛ بقدر هذا التفاؤل في المنجز العلمي، إلا أن المسألة تداخلت فيها منغصات عملت على تدمير الإنسان، حيث ساعدت على توحشه، وتسلطه، أكثر فأكثر، فبعد أن كانت الأدوات التقليدية التي كان يستخدمها للضرر والإساءة بالآخر، تطورت هذه الأدوات وبتقنية أكثر تطورا، صحيح؛ أنها وفرت عليه الجهد والوقت، ولكنها عمقت الجرح، بشمولية تدميرها، وقسوة تأثيرها، وخطورتها المضاعفة عما كانت تعمله الأدوات الحربية التقليدية، وبهذا ساهمت المعرفة في الإساءة أكثر في هذا الجانب؛ على وجه الخصوص؛ ولأن الإنسان هو الإنسان بحرصه، وبخله، وطمعه، وجد في الآلة الحديثة للحروب اليد الطولى لإذلال الآخر، وجد في هذه التقنية الفرصة الكبيرة لتجاوز غطرسته، وبؤسه، وحماقاته، ولأن المسألة مرتبطة بالضعف، والارتباك، فلم يترك الإنسان لنفسه الفرصة في إحداث توازن قيمي؛ على الأقل؛ بين طمعه، وحاجة الحياة لأن يعيش الإنسان شيئا من الأمن والاستقرار، على امتداد هذه الأرض، حيث غدت الأرض مساحة مستباحة لكل القوى القادرة على توظيف التقنية الحديثة لجلب الكثير من المكاسب المادية، على حساب تحقيق الرفاه، والعيش الكريم للجميع.

وامتدادا لخيبة الأمل؛ إن يجوز الوصف؛ لنتائج تقدم المعرفة، أنها لم تستطع أن تخرج هذا الإنسان من مأزق الفقر- والفقر يعد أكبر الحروب التقليدية على الإطلاق - إما لسبب السياسات غير الواعية التي تنتهجها بعض الدول، مما عمقت من أسباب مشكلة الفقر، وفضلت التعايش معها، على أنها واقع لا يمكن تغييره، أو إرباك منظومته الزمنية، وإما بسبب تسلط الذات، وعدم قدرتها على استيعاب المشاركة الإنسانية في كل ما من شأنه أن يرفع من قيمة الإنسان؛ حيث ظل رهين استحقاقاته الشخصية الذاتية، مع أن تزايد عدد السكان، يفترض أن يكون رهانا رابحا للتنمية، وليس العكس؛ فالقوى العاملة البشرية هي المعول عليها لإنقاذ نفسها من مارد الفقر، خاصة مع تزايد عدد سكان العالم بصورة مستمرة، حيث تشير التقارير الصادرة من الأمم المتحدة أنه "من المتوقع أن يكون 15 نوفمبر 2022م اليوم الذي يصل فيه عدد سكان العالم إلى ثمانية (8) مليارات نسمة. هذا وفقا لتقرير التوقعات السكانية في العالم لعام 2022م، الصادر عن الأمم المتحدة؛..."() والمفارقة الصادمة لهذا العدد المتوقع والعدد الحالي لسكان العالم، ولعدم توظيفه التوظيف الصحيح، تؤكدها هذه النسب التي تشير إلى أن: "23٪ ليس لديهم سكن، و15٪ يعانون من سوء التغذية، تناولوا الوجبة الأخيرة، لكنهم لم يذهبوا إلى الوجبة التالية، و48٪ تكلفة المعيشة اليومية أقل من 2.00 دولار، و13٪ يفتقرون إلى مياه الشرب، أو لديهم فقط مصدر مياه ملوثة". وتحل الأمراض البيولوجية، والأمراض المصنعة مخبريا؛ كما أشيع عن (كوفيد-19) فقد أحدثت "جائحة (كوفيد-19) تأثيرا على التغير السكاني، حيث انخفض متوسط ​​العمر المتوقع العالمي عند الولادة إلى 71 عاما في عام 2021 من 72.9 في عام 2019، وفي بعض البلدان، قد تكون موجات الجائحة المتتالية أدت إلى انخفاضات قصيرة الأجل في عدد حالات الحمل والمواليد" (بحسب نفس المصدر). ومنها كذلك أمراض السل، الملاريا، الإيدز، والأمراض "الزائرة" الدور الكبير في حصد الأرواح، وإرباك أو خلخلة الحالة السكانية، ممثلة بذلك حربا ضروسا ليس للبشرية القدرة على وقف نزيفها، أو عقد اتفاقيات ثنائية معها، أو تدخلات من الأمم المتحدة للحد من تسلطها على الأرواح، فما تجنيه الأمراض بأنواعها من أرواح، ومن حالات الإعاقة الناتجة عن الحوادث، بمختلف أنواعها، "وبحسب تقرير الصحة العالمية الأخير؛ تسببت الأسباب العشرة الرئيسية خلال عام 2019م في وفاة (55%) من إجمالي عدد الوفيات حول العالم البالغ عددها (55.4) مليون وفاة في العالم. وقسم تقرير المنظمة أسباب الوفاة إلى ثلاثة فئات: الأمراض السارية (الأمراض المعدية والطفيلية، والأمراض النفسية، والحالات المرضية في القدرة المحيطة بالولادة، والحالات المرضية التغذوية) والأمراض غير السارية (المزمنة) والإصابات"().

وتأتي برامج التنمية المختلفة وما تحدثه من آثار سلبية على البيئة، لتضيف هي الأخرى عبئا آخر في مفهوم الحروب، خاصة إذا لم تراعَ في هذه البرامج النظم والقوانين الذاهبة إلى المحافظة على النفس البشرية، حيث يتم ذلك على حساب البيئة، والقيم الإنسانية، وإن لم يكن لهذه البرامج تأثير مباشر على قتل النفس، ولكن لتأثيراتها الجانبية كتكريس الأمراض المؤدية غالبا إلى تحولها إلى حالات مزمنة، ثم الوفاة.

يوجد سعي حثيث لتعويض الفاقد؛ إن تجوز التسمية؛ هذا التعويض يتمثل في سعي الإنسان الحثيث على تطوير (الهندسة الوراثية) وإن كان هذا السعي لا يزال تحت التجربة، ومجمل التجارب التي قام بها المختصون في مجال الهندسة الوراثية باءت إلى الفشل في نسب كبيرة منها، يأتي في مقدمتها عمليات الاستنساخ، وعمليات أطفال الأنابيب، وعمليات زراعة الأعضاء، وعمليات زراعة الأنسجة، حيث لا تزال هذه الجهود تواجه الكثير من التحديات البيولوجية، والطبية، والنفسية، والقيمية، وبالتالي؛ فإذا عد مرض الزهايمر، والشيخوخة، وتلف الأعصاب من الأمراض التي يسعى إلى الحد منها الطب الحديث عبر "الهندسة الوراثية" فإن هذا التعويض لن يكون بذلك القدر الذي يمكن أن يوقف من نزيف الأرواح، فالأرواح ماضية إلى مآلاتها النهائية، "ومن المتوقع أن تؤدي الانخفاضات الإضافية في معدل الوفيات إلى متوسط ​​​عمر متوقع عالمي يبلغ حوالي 77.2 سنة في عام 2050. ومع ذلك، في عام 2021، تأخر متوسط ​​العمر المتوقع لأقل البلدان نموا سبع سنوات عن المتوسط ​​العالمي."(بحسب ذات المصادر).